مسابقة الفنانة فدوى سليمان للقصة القصيرة

مرت الأيام بثقل وخوف شديد، كانت يد الموت تحكم قبضتها على أعناق الجميع، فترى أجساد الأطفال والنساء والرجال تتهاوى جسدًا تلو الآخر، يموتون هم ولكنهم يورثون أحلامهم بالحرية والخلاص من الظلم والذل لمن بعدهم، وكأن للحرية رسالة تتناقلها الشعوب جيلًا بعدَ جِيل..
"سلمى" تلك الزوجة التي للمرة الأولى أيضاً أقف معها في صفها وأقول مثل ما تقول "النساء شقائق الرجال" قلتها في خاطري بالطبع خشية أن أفيق بعد قليل وقد صحت بي نشوة الرجولة!
هل ظفرتُ بالنصر؟ لا علم لدي أتعلم! فجُرحي لا زال رطباً، ليته يُمحى ولا يتركُ أثر الندبة، لم يبقَ مكاناً لندبة أخرى. وقلمي أيضاً لم يبقَ فيه حبر، فمَنْ سرق أيام عُمري سرق المحبرة معه وكومةً من ملامح وجهيّ الجميل. هزمتني أغانينا المفضلة، شعرتُ بالهزيمة وهي تتسلل إلى داخلي، أُسِرت بداخل حكاية مؤلمة لا مهرب منها، في قصة بدأت بالحرمان وانتهت به!
كل ما تم حسبانه سوف أنظفه بسائل الجلي، وسوف تبقى أحلامنا سكينة الليل فقط. تواسي أطفالها وتقول: سيرزق الله أباكم عملاً عما قريب وسوف يحقق لنا كل أحلامنا بإذن الله. تضع بضع حبات زيتون ليتناولوا غداءهم وكأن شيئاً لم يكن ولا حلم قد حلم به أحد بالأمس.
ولكن نحن بالطبع كنّا ندري ماذا نفعل، بل كنّا نشتاق للّذي كنّا نفعله، نشتاق عصافيرنا وحدائقنا وسهراتنا الأنيسة وأحبابنا الطيّبين، أعدنا طلاء مدينتنا بألواننا؛ ألوان حياتنا وموسيقى جدّاتنا، عرشهم ذاك الّذي بنوه بورق بياناتهم انهار بماء حياتنا، سطوتهم تلك الّتي أرعبونا بها استحالت ذكريات نتلوها لأحفادنا، جنودهم هم اللغز إلى الآن: أين ذهبوا وأين اختفوا؟؟
الوقت يحلق بجناحين من فراغ، ببطء مريب بعد أن حاول مراراً وتكراراً إيجاد عمل طيلة السنوات الأربعة الماضية، ولم ينجح، فمعظم الأعمال في القرية تتطلب خشونة، بينما هو يبدو كعجوز خرف، لذا كان دائماً يواجَه بالرفض والاستنكار، وبكل مرة كان يفكر ملياً من الذي ابتدع مفهوم القوة الفاجر ذاك، وبعد كل محاولة يتساءل هل سأنزوي مجدداً
وعندما بدأ الدراسة عجز الأساتذة تعليمه حتّى أبسط الحاجات ولم يستطع تليين رأسه العنيد حتّى الشيخ مكّي وسوطه، وبعد أن صار في الجامعة وزوّجناه قلنا يعقِل فإذا بحسابنا ينقلب علينا فإذا به يطيش ويجادل أساتذته ومدراءه حتّى قبّلنا ألف يد ليكمل تعليمه، وفي عمله طرد من كلّ مدرسة دخلها لتعنّته وجموده، الرجل يجب أن يقسو في موضع القسوة ويلين في موضع اللين
تصاعد الدّخان السّاخن فجأة في وجه الصّبي وذاب الخيط، لماذا؟ لأنّ بنان ما زالت مصرّة أنّ نوع الفحم هو المشكلة، فغيّرته وكانت محقّة، الآن حلّ اللغز، لكنّ المصيبة أكبر، فالحجر العالق في المدخنة سقط ولأن هيكل المدفأة متهالك متآكل، كان الحجر القشة التي قصمت ظهر البعير، ملأ الدّخان غرفة المعيشة، والنّار تتراقص في المدفأة والعائلة تنتظر إخماد النار بعد أن فتحت الأبواب والنّوافذ، لكن الفحم جيّد هذه المرّة!
قصد قريةً قريبةً، واتّخذ على أطرافها بيتاً، وأعدّ ما يلزم لصناعته، أدهش القرية بدقّة صناعته الفخارية، وذاع صيته في المدن، وطلب منه التجار مواصفات معيّنة لجرارٍ بأشكال كان قد خبرها سابقا، ليبيعوها على أنها قطعا أثريّة، كان يعمل في النهار بصناعة الجرار الغالية الثمن، ويتخذ قطعاً من الليل لتشكيل تلك الكائنات، أعدّ الكثير منها بملامح مختلفة، فمرّة يشكل أمراء بغداد ونساءها وأطفالا، ومرّة يشكل مقاتلين على أفراس، وأخرى عبيداً، وكلهم بأحجام لا تتجاوز إصبع اليدّ، ويجمعها في خوابي أعدها لهذا الغرض.