صوتٌ يُسمع بالقلب والجوارح قبل الأذنين، كلمات أغانيها حُفرت على جدران هذا المنزل الشُح الذي لا بريق فيها إلا بريق عيون الطفلان الصغيران.
أعلم أن البداية كئيبة مقارنة ببقية البدايات أياً كانت تكن كبداية رواية أو مقالة أو حتى علاقة، فمن الأمانة أن نكتب الحقيقة السوداء لبداية حُلمٍ مبتور الأطراف ومنزوع الابتسامة…
وهكذا كانت الصورة الحقيقية فور دخولك إلى منزل يسكنه بعض الغرباء تحت مسمى العائلة، فلولا أشعة الشمس وصوت فيروز الذي يليه صوت القرآن الكريم، لكانت قلوب أفراد هذه العائلة تعفنت قبل المنزل.
إنه يوم الجمعة حيث الكثير من الضوضاء والأزمة لكون هذا اليوم “عطلة”، ففي البداية فطورٌ ثم أعمال المنزل يليه جلسة مليئة بالصراخ والنقاشات الحادة حتى ينتهي اليوم بالجميع، وكل واحد منهم في غرفته أقصد كل أربعة في غرفة، فلا وجود إلا لغرفتين في بيت يتألف من ثمانية أشخاص.
البنت الكبرى (فرح) البكر لوالديها، ويفترض أن تكون قد عاشت طفولة وردية مليئة بالدلال والحب، لكن كل هذا فرضيات فهي تحملت مسؤولية آلام كبدتها بداخل جوفها إلى أجل غير مسمى.
نستكمل بالترتيب بين أفراد هذه العائلة
البنت الثانية (أمل) لكل منّا له حظ من أسمه، وهذه الفتاة كانت أملاً لنفسها وللبقية إلى حيننا هذا.
البنت الثالثة (توليب) يكفي أنها أجمل من دخل هذا المنزل البائس بعد أن حاولت الأم التخلص مما في جوفها حتى تراجعت بقدرة الله.
أول الأبناء وفرحة البيت بعد ثلاثة فتيات بحسب العادات والتقاليد البالية، فالابن فيه خير أكثر من البنت، (مطر) عينان زرقاوان مثل أخته فرح وبهجة أعادت رونق الحياة.
البنت الرابعة (فيروز) التي هي أنا: غريبٌ أمر هذه الفتاة نورٌ يشع من وجهها كأنها ملاك وطوق نجاة لهذا البيت.
الابن الثاني والأخير(عاصي) أخر مفاتيح الفرج ومدلل أخوته؛ لا يسعني القول غير أنه نشأ في ظروف يُقال عنها أنها كانت أكثر هدوءاً من البقية.
أما الأم والأب لا تعريف لهما سوى إنهما كانا كتلتان من العقد النفسية نتاج الأيام الوخيمة التي عاشوها.
ففي زمنِ ما قبل الحرب في سوريا كانت هناك فسحة تستطيع التنفس منها رغماً عن كل الظروف القاسية.
لكن في ذلك البيت المُتعفن لا وجود للفُسح، فالأم والأب قد زرعوا كل خيباتهم في كفوف أولادهم، في عيونهم وقلوبهم، زرعوا كل العقد النفسية الناتجة عن قرارات صارمة وخاطئة أودت بهم، وبسنوات من عُمرهم إلى القمامة، ولازالوا يدفعون ثمنها إلى الآن.
كانت ليلة أشبه بالحلم بالكاد أتذكرُ المشاهد، ليلة هادئة، طويلة، حالمة، بريئة، تشبه السماء المليئة بالنجوم إلى حدٍ ما، فصوتي المتناغم لا أنساه كيف ضحكت عندما رأيت طفلاً من أعلى المنزل فوق السطح يلاعب والده في الشارع وفي ساعة متأخرة من الليل، لا أنسى لحظة رؤيتي لشهابٍ حمل معه كل أمنياتي المخبأة في جوف فراشاتي، لا أنسى أخوتي وأحاديث السهر التي اعتلت جلستهم، فشعرت بالطمأنينة وهي تتسلل إلى داخلي.
لكن شاء القدر أن يكسر تلك الصورة أمام عيني، صورة العائلة التي لعلها تترابط يوماً ما، صورة الحب على هيئة عائلة.
وشاء القدر أن تتمزق كل الأشرعة وتبحر بنا الحرب حيث تشاء. ففي غضون ثلاثة أشهر في عمر يناهز التاسعة ودعت أخوتي الأربعة (فرح وأمل وتوليب ومطر)، هاجروا قلوبنا قبل بلادنا، أصبح البيت فارغا باردا ولا وجود لأي وجه مبتسم فيه، فراق سبب بشرخ كبير في قلوبنا إلى يومنا هذا. لن أنسى صوت نحيب أمي وأبي الذي شاخ فجأة.
تحولنا من بشر إلى أنصاف بشر؛ إلى أنصاف قلوب، تحولت حياتنا إلى نصف حياة، حتى أجسادنا أصبحت نحيلة.
وأدركت إنه لم يعد بالإمكان أن أشارك أحداً شيئاً، وإن بكيت ليس هناك من يمسح لي دمعتي، وإن نمت أنام لوحدي في غرفة تحمل جدرانها جميع ذكرياتنا، تسمع فيها صدى أصواتهم.
فلن أنسى خفقان قلبي في تلك الليالي، البكاء المستمر، شعور الاكتئاب الذي أصابني في سن صغير جداً، فمثل تلك الليالي كافية بأن تهزم طفلة.
مغادرة أخوتي كانت كالصفعة على وجنتا أُمي، أمي التي ذاقت الظلم لأخر قطرة في سبيل أن تحيا بصورة تليق بالعادات والتقاليد الكئيبة والمزيفة.
أحست أمي بالسنوات التي ضاعت هباء؛ دون أن تعبر عن حبها لأولادها، دون أن تمسح على رأسهم، دون أن يكون هناك رابط يجمعهم بها في وقت الخوف والحزن.
شعرتْ بالندم الدامي الذي عاش معها طويلاً على أيامٍ ماتت دون ان تُزهر بكلمة طيبة. فكان لنا أنا وأخي عاصي البعض من الاهتمام والكثير من الصداقة التي جمعتنا بها مع مرور الأيام، وحتى شكّلنا نحن الأربعة دائرة مغلقة قربتنا من بعضنا أكثر وباتت الراحة النفسية والأمان الذي يسود هذا البيت.
بات حيّا هذا المنزل بصوت فيروز الصغيرة وفيروز الأصيلة.
مرت الأيام منها الحزينة بعيداً عن أخوتي، ومنها السعيدة بقدومهم ومنها المؤلمة جدا لوداعهم.
حتى تداركنا الأيام وكابرنا على أنفسنا لنتحمل مشقة الطريق كل منّا لوحده.
أختي فرح وأمل درستا الطب في الخارج، وأختي توليب فقدت دراستها في سوريا، وانشغلت في حياة العمل هناك، أما مطر انغرس في العمل حتى كاد ينسى أن له حياة ويستحق أن يخوضها.
مطر كان أكثرنا إيلاماً، تحمل المسؤولية وهو في الخامسة عشر من عُمره، كان سند من لا سند له، كان أصغرهم سناً وأكثرهم عاطفة وأماناً.
حقيقةُ الحياة مؤلمة جدا، كيف لنا نحن الأخوة الذين جئنا من رحم واحد أن يعيش كُل منا أياماً ثقيلة لوحده دون أن يشارك الأخر فيها خوفاً عليه. لكن كان لا بُد من الحرمان الذي لقن أمي وأبي درساً عن الحب أولاً، ثم العائلة، كان درسا دفعنا ثمنه جميعاً وكنا ضحية عائلة غير متماسكة، بل الأصح أفراد تحت مسمى العائلة، ولا نزال ندفع ثمن قرارات خاطئة لا علاقة لنا نحن الأبناء بها.
باتت أيامنا تتشابه نوعاً ما حتى واجهنا الحرب بكل ذرة في جسدنا، ذقنا الخوف ليالي لا تُعد ولا تحصى.
أصبحتُ خائفة من السماء، المكان الوحيد الذي كان يشعرني بالطمأنينة ويذكرني بسعة الله ومحبته لنا.
لكن في زمن الحرب كل شيء تبدل حتى السماء أصبحت ساحة للرصاص والقذائف، وتحول لونها إلى الرمادي الذي يبعث في النفس الكآبة والعجز.
لم نرث من هذه الحرب سوى العجز الذي بتر أطراف أحلامنا.
أعلم أن الصورة التي رُسمت في أذهان من غادر البلاد قبل خريفها منزوع الحياة، بأننا نعيش تحت خيمة سوداء لا نور فيها، لكن الحقيقة بأننا بتنا نتنفس من خرم الإبرة ولا خيمة نحتمي تحتها، نحن نعيش في العراء مع أُناس عُراة من الضمير والإنسانية، بات القوي بيننا من يأكل لحم أخيه أولاً، نحن نعيش في بلد لا تشرق الشمس فيها ولا ضوء القمر لنسهر تحته مع مَن نحب، نحن نهرب من الظلمة إلى الظلمة فلا شمعةٌ نهتدى بها الطريق، ولا صديقٌ مؤنسٌ نتكئ عليه في الضيق.
نحن أجيالٌ خُلقت من مخاض الألم، نحن أجيالٌ قطع الحبل السري بيننا وبين الحياة و وقفنا منذ أن شهقنا أول شهقة على حافة الموت…
وهكذا مضت جميع أيامنا…
إلى إن كبرنا جميعنا قبل أواننا بمئة عام نحو الخلف، وأنا في داخلي خواء يا صديقي وعاطفتي منزوعة وفارغة فلا أذكر متى حضنتني أمي أو رمقتني بنظرة حُب…
فلم أتعلم كيف لي آن أُحِب أو أُحَب، وجميع الناس كانوا علاقات عابرة خسرتها أو خسرتني لأسباب عديدة…
إلى أن شاء قدر الله أن يستبدل رغبتي في الدراسة من الصيدلة إلى الهندسة المدنية، لتبدأ حكايات لم تكن بالحسبان…
فكانت الصداقة القوية والمحبة من نصيبي والخذلان والجرح أيضا من نصيبي، فلا وجود للفرح إلا وبجانبه نقيضه هذه هي الحياة لا يمكننا إنكار الحقيقة…
التقيت بفتاة تشبهني إلى حد الذهول كأنها أنا، وكأنني هي، وكأن القدر كان يفرغ حياتنا مِن كل إنسان لا يستحقنا حتى نتصادف، ونعوض بعضنا ما فاتنا من أيام خالية من ذكريات الصداقة الحقيقة.
بتنا نتشارك مقاعد الدراسة ومقهى الجامعة ومغامرات لا بُد منها، حتى أنني أصبحت غير دقيقة في مواعيدي مثلها، بينما هي حاولت جاهدة أن تصبح دقيقة في المواعيد لكن عبث فهذه هي (لانا).
يفوق طبعها إراداتها وحتى تفوق شفافية روحها إرادتها وتبصر في عينيها شيئاً من الأمل.
كانت أيامي في الجامعة ما بين الدراسة والتعب والإرهاق، وبعض المواقف المزعجة من بقية الطلبة، وجلسات نميمة وصدمات من مشاهد رأيتها لأول مرة في ذلك المجتمع الواسع.
حتى قُصفت جامعتنا التي كانت بجانب سجن، سجن؟ نعم نحن كنا نعيش بجانب سجناً تملأه الوحوش البشرية (داعش) فكانت عبارة عن عملية مدبرة من أحدهم ليفسح المجال لهروب المساجين، لكن دمار جامعتنا كانت من ضمن خططهم حتى نفقد العلم في بلادنا. ويصبح من الصعب الحصول عليه أو نُحرم منه، وهو كان الهدف الرئيسي لهم.
نقلنا إلى غير جامعة في نفس المنطقة، لكن كل شيء اختلف، الطلاب والأماكن والأجواء.
في بلادنا حتى أبسط حقوقنا كبشر باتت صعبة المنال وأحيانا تصبح شبه مستحيلة.
تداركنا ألم الدمار الذي حلّ بجامعتنا، وألم التغير المفاجئ الذي حدث لنا… تداركنا الأشخاص الغريبين الذين باتوا جزء من يومنا…
انتهينا من المحاضرة ظهراً، وكان الطقس يدعوك لاحتساء بعض الشاي، وفعلاً احتسينا الشاي أنا ولانا، ولكن كانت الصدمة عندما أخبرتني بمستجدات حول أيامها المقبلة.
لانا: فيروز أنا اجتني منحة دراسية برات البلد.
ملامح الفرح والحزن، الحسرة وبدايات الوداع الذي أخافها كثيراً، السعادة المؤقتة فنجاحها من نجاحي، وغصة ابتلعت صوتي ولم أستطع التعبير عما في جوفي.
فيروز: عم تمزحي، وأخيراً بدايات جديدة وبتفرح، بس حتى أنتِ رح ودعك؟
بعدها لحظات صعبة، فكان على لانا أن تقرر بأسرع وقتٍ ممكن، وأنا بالطبع شجعتها على الذهاب، فهنا لا مكان لخطوات جديدة وسوريا باتت مقبرة الأحياء.
لانا: فيروز أنا رحت ع الاجتماع اليوم وحطينا النقاط ع الحروف، والسفر تخطط وكلشي صار محسوم.
باتت اللحظة حاسمة بالنسبة لي ولها.
ذهبتُ إلى بيتها لقضاء بعض الوقت بين تسجيل الذكريات وجلسات الفضفضة الأخيرة، وبين دموع وضحك هيستيري.
ودعناها أنا وزملاءنا في الكلية، ودموعنا تنهمر وسط كم من الأسئلة تشغل بال الجميع عن الذي يجري!
ودعتها في منزلها مع عائلتها وأمها التي تجرعت ألم الفراق والحرمان والوداع دفعة واحدة.
كان يجب أن أودعها بعد ذهابها مجددا بكلمات تخصها هي، وإليها بالتحديد فبكتْ لانا من أثرها.
_روحي مرهقة وكيف لي أن أغلبَ هذه الليلة الطويلة…
شريط الذكريات لا يفارق عيناي وطيفكِ يحوم في ذاكرتي.
ليالي الدموع لازلت اشتقاها وأحاديثنا المطولة لازلت أرددها.
حُرمت من أخوتي وأنا طفلة، وها أنا أُحرم من الجميع مجدداً، متعبة يا شقيقة الروح وصديقة الوجع، يا بئر الآلام وملجأي في الأحزان، يا حضناً ذرفت فيه كل دموعي وشهقت كل آهاتي.
اتكئي علي حتى في قوتك، يدي ستمسح دموعك حتى في النّوى.
اليوم جئتُ وأنا حاملة معي كم هائل من الاعتذارات أقدمها لي ولكِ.
أعتذر لكِ عن أياماً لم أكن موجودة، أعتذر نيابة عن كل جرح ترك ندبة في قلبك ولم أكن حاضرة، أعتذر نيابة عن المسافات التي تؤلمنا نحن الاثنتان.
الأُناس يرحلون وحتى الأصدقاء، لكن أثر الكلمة الصادقة لا يزول ولا يرحل، فأنا هنا عندما يديرُ الجميع ظهره لك، وأنا درعك عندما تكون جميع الأسهم باتجاهك.
إليك يا وحيدة أهلك ووحيدتي، فكل الإهداءات قليلة بحقك.
سئمت الوداع فمنذ التاسعة من عمري وأنا بدأت أودع، ودعت الكثير من الناس: إخوتي، أصدقائي، الأقارب، الجيران، الجميع دون استثناء الحيّ منهم أو الميت. بات الوداع جزءً لا يتجزأ من حياتنا وباتت عيوننا غارقة في الدموع طوال السنة وقلوبنا محطمة، وباتت مهمتي في الحياة أن ألوِّح بيدي وأشعر بها كأنها تُبتر.
ومع كل هذه الوداعات لازلت أخشى الوداع، لازلت أبكي وكأنها المرة الأولى.
لم أكن أتوقع أن تمضي أيامي بتلك السرعة لكنها مضت شئت أم أبيت.
أمّا أنا عشقي الكتب والقراءة، وكثيراً ما كنت أتردد على المكاتب المزودة بطاولات، وتشبه إلى حدً ما المقاهي، فأحد هذه المقاهي كانت هادئة للغاية وصرت أتردد إليها كثيراً.
ثم ماذا؟!
بدأت الحكاية قبل انتهاء التي قبلها، هكذا أنا فوضوية إلى الحد الذي أخلط كل شيء في وعاء الألم وأشربه إلى أن أثمل.
“عامر” التقيته صدفةً في إحدى المقاهي المفضلة لدي، والتي أصبحت الآن أكبر مخاوفي في أن اقترب منها خوفاً من أن أجده على نفس الطاولة ونفس الجلسة، وبيده نفس الكوب والسجائر تنام بين أصابعه بدلاً من أصابع يدي.
التقيته بكامل غموضه وفوضويته العارمة، وصوت كتاباته كانت تهمس في أذني بأنه أعمق مما أتخيل.
أتذكر عندما كنت أحادث غيره على هاتفي، وكانت عيناه تحوم حولي بدلاً منه، وكأنه أراد الجلوس معي، وكأن القهوة كان لها طعما آخر معي، حتى هممتُ بالمغادرة وهو غارقٌ في كتاباته كما طننتُ.
تكرر مجيئي إلى ذلك المقهى لقراءة رواية تشبهني إلى حد ما “السجينة”، لم أكملها لشدة ضياعي بين صفحاتها وأنا عقلي مشغول في إهمال ذلك الوغد لي، وأحلم بلقائه في طريق عودتي للمنزل، إلى أن اصطحبت (لانا) ذات الصوت الرنان بعد مجيئها من السفر إلى ذلك المقهى، لترى الكم الهائل من الثقافة المحفورة على جدرانها حتى بدأت بالغناء في أجواء هادئة للغاية في أضواء خافتة ورائحة القهوة تكتب أفضل من مئة كاتب وروائي عن قصص انتهت قبل أن تبدأ.
لم أرَ نفسي إلا وأنا أنظر إليه بدهشة وهو يقدم لنا ورقة مليئة بالإهداءات على اللوحة الفنية الدافئة التي قدمناها حينها وفي ذلك الوقت من المساء.
أكاد أجزم بأن أحداً ما ترك رسالة في داخلي ويخبرني بأن ورقة الإهداء تلك لم تكن مجرد إهداء عابر من شخص غريب، بل كانت سطور البداية وعنوان الرواية.
لا أؤمن بالصدف فربُّ الكون لا يخلق العبث، بل لكل شيء سبب مقنع ومجيئه إلينا لم يكن محط صدفة، وأنا أدركت ذلك منذ الوهلة الأولى.
امتلك ذكاء أكبر داهية في الكون إلى حد الغباء أحياناً أتعلم…
هل كتابة ورقة مليئة بالإهداءات صدفة من شاب في ربيع أيامه؟ يبحث عن نفسه في أعين غيره، يتباهى بنفسه مع مَن يجهله.
ثم بكل رحابة صدر دعوت نفسي أنا وصديقتي للجلوس على طاولته ليقرأ لنا ما كتبه، فتوتره الذي ربط لسانه أمامنا هو نفسه الذي عبث مع أصابعه حتى أصبح خطه غير واضح.
حدثته أنا أيضا عن نفسي؛ وأخذنا الحديث ما يقارب النصف الساعة بعد ما غادرت صديقتي طاولته لأبقى لوحدي بين فوضويته التي ابتلعتني.
ليبدأ من بعدها الحديث عن مواقع التواصل، من ثم أخذنا أرقام بعضنا ثم التخطيط للقاء الذي حدثني عنه حدسي بأن شيئاً ما سيؤلمني، ولم أكترث له سوا أول مرتين، لكن بعد ذلك غاب هذا الصوت بداخلي حتى عاد مجددا ليبعدني عنه بعد غموضه المؤذي الذي بات واضحاً جداً في تصرفاته.
فإلفةُ الملامح التي أحسست بها عند رؤيتي له لم تكن عن عبث، وكانت النتيجة أننا كنا ندرس في ذات الجامعة وذات الكلية ولم أتذكر شيئاً إلى أن أخبرني أنه طالب هندسة في السنة الأخيرة.
تكررت لقاءاتنا المليئة بالأحاديث الثقافية، وأحيانا حول الدراسة وكان يجيد التدريس، فدرسني في بعض الأحيان…
الصباح بدأ.
في هذه اللحظة تحديداً أنتَ من يقرر كيف سيكون يومك.
فقررت لقاءه بعد حين من الزمن ودهر من الألم.
كوب القهوة له مذاق خاص معه رغم معرفتي التامة بالقهوة وجهلي به ولا أعرف أين يكمن السر.
هل محتوم عليّ لقاء الغامضين والمنكمشين في جوفهم؟!
وددتُ لو كانت هذه الرسالة منه، فشرفة حياتي واحدة ولا تتسع إلا لأثنان، فأما أن يهرع ويأتي، وأما الحياة ستصفعه على وجنتيه ويندم لاحقاً.
وقررتُ المجازفة بآخر ذرة إحساس في جوفي الذي بقيّ فارغاً تماماً بأن صوتاً ما بداخلي يخبرني بأنني ابتعلتُ القمر عندما اصطدمت به، فهذه الكمية الهائلة من النور الذي أضاء عتمتي لم يُخلق عبثاً، وإنما كان السبب هو “عامر”.
جمعتنا الكتابة، فلم أكن أنا الوحيدة التي تكتب وتروي القصص، جمعتنا الثقافة والعقل الناضج، والصراحة والجلسات المريحة، جمعتنا الفوضوية في زاوية واحدة حتى بات يهديني من كل صباح ومساء إهداءات ظننتها لي!
وأهديته كلمات كُتبت له فقط.
_لكنني نسيتُ يا عامر!
=ماذا نسيتي فيروز!
_نسيت أن بمقدوري أن أبقى ثابتة أمام ثقل نظراتك، نسيت النسيان فتذكرتُ كل ما كان يجول في خاطري وأنت بجانبي، نسيت أن أودع مشاعري في أقرب محطة قبل وصولي إليك وبين يديك، ونسيت أن أودعك لشدة لهفتي بلقائك مرة أخرى، لكن الواقع كان يحكم بغير طريقة فتلك كانت آخر مرة.
وأنت أيضاً تنسى كثيراً، تُراك نسيت مَن كنا وما كان الذي بيننا.
بيننا أرض خضراء وبيتٌ عتيق، بيننا أحلامٌ يا سيد الغموض.
ننسى النسيان سوياً ونفقد ذاتنا، نقع جثث هامدة ونصرخ بأعلى أصواتنا، نتألم في عزلتنا، نتكلم في حزننا، نبكي وروداً لا دموع، نهتف حُباً لا حرية، نعاتب شوقاً ونتسامر في ساعات الليل الأخيرة، بودي لو بإمكاني أن أكتب إليك عُمري كله ليكون كتاباً تقرأه أنت فقط، لكنك وبتنا نعرف ما بعد (لكن) خيبة تُمحي بعدها كل الأسطر، ويعود كُلٌّ منّا إلى سريره ويجمع فتات صور الآخر ليحتفظ بها في خزائن الخيبات السوداء.
لم يبوح عامر بما كان يجول في خاطره، وبقيتُ أترقب شفتاه لعله يخبرني بشيء!
فدفعتني المشاعر لأرسل له رسالة نصية تتضمن الآتي:
_ أمحو ذكراك من ذاكرتي رغما عني، رغما عن الرسائل والقبلات، عن القهوة واللقاءات، عن أثر يداك على أصابعي، رغما عن الصدف المؤلمة فنيران تجاهلك كانت تبتلعني حتى أختفي من الوجود، ورغم الدخان الذي كان يخنقني في آخر اللحظات لازلتُ غير مرئية. أي قوة كانت تمنعك عني وتبعدك حتى عندما نتصافح؟! كان شيئاً من البرود يتسلل من يداك إلى قلبي، أتُرانا متشابهان حتى لا تجمعنا الأقدار، أم علينا أن نكون مختلفان إلى حد التجاذب؟! نفذ صبري وجفّت اقلامي ويداي لازالت تلوح في الفراغ بحثاً عن طيفك لعله يلمحني، فعيناك لا أعلم ماذا حل بهما حتى كفت عن الرؤية، أنا أمامك وبين أجفانك أبحث عني وستراني أعدُّ رموش عيناك بأصابعي وحتى وجهك وتفاصيله لن يبقوا جائعين، فتلقائيا تجدني أملؤها بالقبلات ويحق لي ما لا يحق للجميع فأنا كاتبة؛ أنسيت؟ أستطيع كتابة أحلامي وأنت تظنها واقعٌ لا محال، لكن لا تخف فيداي لا تطال يداك، فقط عيناي هي التي قبلّتك من بعيد جداً، بيننا جدران وأزقة وحارات، بيننا مسافات تمحي ما كنا نود البوح به ولا نبوح!
حتى مع الاعترافات التي كسرت من كبريائي أمامه لم يتحرك من مكانه!
فأرسل لي رسالة شكر بعد ما تعمدت إرسال رسالة أخرى أطمئن عليه لغيابه المتكرر.
_بتشكرك فيروز والأهم إنو أنتِ ما إلك وقت محدد، أنت بتبعتي إيمت ما كان، وشو ما كان السبب، بس أنا اليوم كنت ضايع شوي بين قصص العيلة ومشاكلهم.
=الله يهدي البال بس أبقى قلي غير مرة وما تسكر الانترنت هيك فجأة.
_أي أكيد بصير.
تكررت غياباته بين السؤال عني متعمدا التقرب والبعد والاختفاء المؤلم، إلى الحد الذي لم أكن أفعل شيئا سوى الانتظار، حتى نفذ صبري تماماً.
قطعتُ تواصلي معه تماماً واتخذت ألف قرار وقرار، لكنها كلها فشلت أمامه، فكان نرجسياً يجذبك إليه رغماً عنك.
لحظات الاشتياق لأخوتي وصديقتي لم تفارقني؛ وحيدون أنا وأشخاصي المفضلين.
وحيدون وكلًّ منا في عالم يختلف عن الآخر. وحيدون ونعيش بداخل أنفسنا أكثر ما نعيشه في الخارج.
مؤلمة لحظة الإدراك التي شعرت بها مئات المرات وكنت أتعمد أن أركنها بعيداً عني، لكن هذه هي الحياة لا بُد أن تصفعك بالحقائق ولو كانت مؤذية.
وحيدة بدونهم ولا يسعني أن أقولها في وجههم، لا حضن يجمعنا ولا جلسة نفضفض فيها عن همومنا.
لا ألم يضاهي ألم النوى يأكل من جوفك شيئاً فشيئاً حتى يُفرغ كُل ما بداخله حتى قلبك لا يسلم منه، فسلامٌ علينا إلى لقاء ما بعده فراق يؤلم إلى هذا الحد.
في أول ليلة رمضان لسنة ٢٠٢٤ كنتُ مؤمنة تماماً بالسكينة التي سأحظى بها في تلك الأيام حاملة معي كل الأدعية.
لكن ما حدث لم يكن بالحسبان!
قررتُ التخلي عنه وعما غي جوفي في سبيل السلام!
نعم فقد كنت أعيش شيئاً من الحروب الداخلية.
هممتُ بكتابة رسالة طويلة له أخبره بأنه كان يتعمد الغياب، ويتعمد إيذائي للأمراض التي كان يعاني منها، “النرجسية” والاضطرابات كما كان يقول لي دوماً.
فنعتّه بالمريض والمؤذي، وذكّرته كيف تجاهلني مرات عدة عند رؤيته لي في الجامعة ولا أعلم ما السبب، ذكّرته بلحظات السهر مع كتاباته التي كان يرسلها لي، ذكّرته بالألم الذي حلّ بي ولم يكترث هو، و كيف كان كبريائي يسيطر على وضعي، وكيف طحن مشاعري بتجاهله!
أنكرَ كُل ما جرى!
=إي لانا هو أنكر كل شي، حتى صار يحلف ويقول إني مستحيل استغل مشاعر حدا وإنو لو في بقلبه شي كان حكى وأعترف!
_فيروز، أنا هي المرة بترجاكي أنك تشيليه من بالك وقلبك.
=لانا والله لو بقدر كنت عملت هيك من زمان، بس حكمُ القلب قويّ كتير وغلبني هي المرة مع الأسف، وحتى إني فقدت كبريائي قدامو!
_معليش فيروز أنا كتير فخورة فيكي أنك قلتيلو كل شي بصراحة تامة، وقدرتي تخطي خطوة شجاعة مشانك ومشان يعرف إنو التخلي متل شربة مي عندك!
ثم ماذا بعد كل هذا الألم؟
هل ظفرتُ بالنصر؟ لا علم لدي أتعلم! فجُرحي لا زال رطباً، ليته يُمحى ولا يتركُ أثر الندبة، لم يبقَ مكاناً لندبة أخرى.
وقلمي أيضاً لم يبقَ فيه حبر، فمَنْ سرق أيام عُمري سرق المحبرة معه وكومةً من ملامح وجهيّ الجميل.
هزمتني أغانينا المفضلة، شعرتُ بالهزيمة وهي تتسلل إلى داخلي، أُسِرت بداخل حكاية مؤلمة لا مهرب منها، في قصة بدأت بالحرمان وانتهت به!
الوداع إلى وداع آخر يا بطلي الهارب، الوداع إلى اللحظة التي سأكتب إليك أخر الكلمات، إلى لقاءنا الخامس والأخير إلى قبلة ليتها تطبع على خدي ويعتقد الجميع بأنها وحمة رُسمت عندما كانت أمي تحملني بين أحشاءها.
فهل الحزنُ موروث؟ لمَ أرث سوى الحزن، بقيتُ بعيدة عن كل اللذين أحبهم، حُرمت من كُل أحبتي.
ولم أغفر لمن خذلني في أول الطريق.
في زمن النهايات كُل نهاية متوقعة يا صديقي.
كُل الأحلام المؤرشفة مرجّحٌ أن تموت وكُل الدموع المُخزنة بإمكانها أن تغسل جرحك.
سيلفانا كوري ١:٣٠ ص.