إذا كان التعليم هدف استراتيجي أولي لنهضة الأمم وتقدمها، والشغل الشاغل لاهتمام المجتمعات المتقدمة والمجتمعات التي تحاول اللحاق بركب من سبقها، فإن المعلم يمثل الأساس لقيام هذا البناء وصلاحه، لذلك كان التعليم غاية الأنبياء والمصلحين للوصول بالمجتمع الإنساني إلى أرقى سلوك يعبر عن القيم الإنسانية وتقدمها. ومن هنا يرقى المعلم إلى أعلى درجات النبل الاجتماعي بجدارة.
وللحديث عن حال التعليم والمعلم في الشمال السوري لابد من سرد واقع الحال لما يعانيه المجتمع ككل في هذا الجانب ابتداء بالبيئة التعليمية، ومن ثم المعلم وانتهاء بالجيل المستهدف.
أولاً: البيئة التعليمية:
لابد لنا أولاً من توصيف البيئة التعليمية في المجتمع السوري القاطن في الشمال الخارج عن سلطة نظام بشار الأسد، فمنذ انطلاقة الثورة السورية ضد النظام كان شرارتها طلاب المدارس عندما كتبوا عبارات مناهضة للنظام على جدران مدرستهم، وهذا يبين أهمية هذا الركن الأساس في المجتمع وضرورة الاهتمام به والتركيز عليه قبل التفكير برغيف الخبز وفوهة المدفع.
وبذلك تعرضت العملية التعليمية ككل إلى تعطيل وتضييق واعتقال لكوادرها وطلابها من قبل النظام، قابل ذلك اتساع رقعة الثورة وإضراب المدارس والجامعات بحيث كان الطلاب والكوادر التعليمية المكون الأساس والأكثر فاعلية في الثورة السورية.
وبعد مضي سنوات من تدهور القطاع التعليمي وتشرذم الجغرافية السورية إلى مناطق تخضع لسيطرة قوى مختلفة، كان قدر السوريين الهاربين من بطش نظام الأسد والثائرين عليه أن يتجمعوا في الشمال السوري تحت سلطة الحكومة السورية المؤقتة وحكومة الإنقاذ السورية.
وعندما أصبح قطاع التعليم الأكثر تضرراً بشكل مباشر وحتى على المدى البعيد إذ توقفت بعض المدارس ووجدت بعض التجمعات السكنية والمخيمات الجديدة بدون مدارس. ووقع على عاتق المعلمين القيام بهذه الرسالة الإنسانية بدون رواتب، رغم قساوة الظروف المعيشية تحت وطأة الحرب والتهجير.
وبعد مرور سنوات على الحرب الدائرة على السوريين تفاقمت الأوضاع الإنسانية للمجتمع في الشمال السوري وتدهور وضع المعلم المعيشي حتى أصبح أفقر طبقات المجتمع.
فيما بعد تولت حكومتي الإنقاذ والمؤقتة مسؤولية التعليم بشكل خجول، مما أدى لاحتجاج المعلمين على السياسة المتبعة من تهميش للتعليم وضياع مستقبل أجيال كاملة، وتردي وضع المعلمين الاقتصادي لأدنى درجات العوز الاجتماعي، ولاتزال حتى الآن الأوضاع مأساوية تبعاً لاختلاف قوى السيطرة.
ففي مناطق الحكومة السورية المؤقتة لازال المعلم يتقاضى راتب شهري يقدر بألفين وثمانمائة ليرة تركية، أي ما يعادل ثلاثة وثمانون دولار أمريكي، باستثناء بعض المدارس المكفولة من المنظمات الإنسانية والتي تزيد رواتبها عن ذلك حتى تصل لمئة وخمسون دولار أمريكي.
أما في مناطق حكومة الإنقاذ السورية فتتولى الحكومة بالتعاون من بعض المنظمات الإنسانية دفع رواتب لما يقارب 40% من المدارس، فيما تتولى المنظمات الإنسانية بشكل منفرد تغطية النسبة المتبقّية.
وتتراوح رواتب المعلمين بكلتا الحالتين في مناطق حكومة الإنقاذ السورية ما بين (120 – 150) دولار أمريكي.
ولاتزال الحكومات المحلية عاجزة عن القيام بمسؤولياتها بشكل كامل من تأمين البيئة التعليمية الشاملة وتطويرها، ولايزال المعلم يعاني من تدني الراتب الشهري، والأهم من ذلك لم تقم الحكومة بدورها في حفظ كرامة المعلم وحمايته من تسلط بعض الفئات الاجتماعية، ووضع تشريعات تحميه كمربي وتمنحه حقوقه التي تسمح له بممارسة دوره التربوي والتعليمي. كما يحتاج المعلم بناء جسم نقابي حقيقي يدافع عنه أمام الجهات التربوية والاجتماعية فيما يتعلق بمهنته.
ثانياً: الوضع العام للمعلم
مما سبق نجد أن الوضع الاقتصادي للمعلم متدني جداً، ولايحقق له الاكتفاء المعيشي من مرتبه الشهري، بل يترتب عليه البحث عن مصدر دخل آخر وقيامه بأعمال إضافية خارج أوقات الدوام، أو اعتماد بعضهم على الحوالات المالية من ذويهم وأقاربهم المغتربين في دول اللجوء.
ولابد من الحديث عن الضغوط الاجتماعية الكبيرة؛ فلم يعد المعلم قدوة اجتماعية عند الكثير من أفراد المجتمع لتدهور وضعه المعيشي، وكذلك أصبح الحلقة الأضعف تحت وطأة قوانين المؤسسات التي تتدخل بالتعليم بحجة حماية الطفل، فأفقدته دوره التربوي مما جعله عرضة للمساءلة من قبل المؤسسات والمجتمع عند أي شكوى تصدر بحقه من أولياء الأمور دون مراعاة طبيعة عمله كمربي، ودون النظر لما قدمه من تضحيات خلال الفترة الماضية بما فيها العمل دون راتب لسنوات.
إضافة إلى ذلك وفي ظل اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي لحياة المجتمع والأسرة بشكل خاص، وما رافق ذلك من تدمير للقيم والروابط الاجتماعية وتحطيم دور المعلم التربوي، ما أدى لنشوء جيل لا يعترف بدور المعلم التربوي، بل يراه كعامل مهمته تقتصر على إيصال المعلومة العلمية للطلاب دون المساس بحرية الطلاب في الصف، الأمر الذي أثّر على القدرة على ضبط الصف وتنشئة جيل منضبط يحمل القيم الاجتماعية والوطنية الأصيلة.
ثالثاً: الجيل الضائع
من يتفحص الواقع يرى بوضوح ما آل إليه حال الجيل الناشىء من تدهور المستوى التربوي والتعليمي. ويدرك فداحة المصاب نتيجة لانقطاع أجيال كاملة عن التعليم، ووجود نسبة كبيرة تعيش في مخيمات وتجمعات تفتقر لوجود مدارس، وفي أحسن الأحوال مدارس للحلقة الأولى فقط.
وما يزيد من هول الكارثة غزو وسائل التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية عقول الأطفال والأسرة بشكل مباشر، ومع الأسف ابتداء بالأم والتي تعتبر ركيزة بناء المجتمع الأساسية، فيصلح إن صلحت، ويفسد إن أصابها خلل ما.
وكذلك تعطل دور الأب بانشغاله بقوت عياله لساعات طويلة، ثم يصرف ما تبقّى من وقته على وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً.
ومع الأسف يرى الكثير من الناس أنهم يعيشون عصر التحرر من كل شيء، وليس فقط سلطة نظام الأسد القمعية بل حتى من الحكومات المحلية ومؤسساتها، ومن بين ذلك التخلي عن الضوابط الاجتماعية والتربوية في المدرسة، مما أفقد المعلم دوره التربوي وقلل من قدرته على القيام بواجبه التعليمي أيضاً، فتضافرت على المعلم الضغوط الاجتماعية والمؤسساتية والمعيشية.
وأكثر ما يخافه المعلم تذمر طفل أو أحد أولياء الأمور لأي سبب كان أثناء ممارسته لعمله في المدرسة، لما قد يحصل له من شكوى للمؤسسات التعليمية أو المنظمات الإنسانية ذات العلاقة؛ قد تفضي تلك الشكوى لفصله في كثير من الأحيان دون سبب حقيقي، أو يتلقى عقوبة تزيد من معاناته.
وقد يتعرض المعلم لمواقف شائعة لاعتداء جسدي أو لفظي من بعض أولياء الأمور، وخاصة ممن يمتلك بعض السلطة أو النفوذ في مراكز القرار الإداري والعسكري، وبشكل خاص في مناطق الحكومة السورية المؤقتة نتيجة فوضى الفصائلية.
الخلاصة
إذا كان هذا الواقع التعليمي السيء يسير بنفس الاتجاه دون نظام إصلاحي شامل، فإن المجتمع سيتحمل في السنوات القادمة تحديات أمنية واجتماعية بالإضافة لانحدار مستوى الكفاءات الناشئة.
فلابد من تضافر الجهود الاجتماعية والمؤسساتية لتبني نظام شامل يقوم على تهيئة بيئة تعليمية سليمة توفر مناهج متطورة ووضع قوانين تراعي الآداب التربوية والاجتماعية، بما يحفظ كرامة المعلم ويصون حقوقه، وكذلك ضبط العملية التربوية لتنشئة أجيال تشعر بمسؤولياتها الاجتماعية والأخلاقية لبناء المجتمع والحفاظ على تماسكه بعد أن دمرته آلة الحرب الإجرامية لنظام الأسد وحلفائه.