مونولوج
أصواتٌ عاليةٌ ونبراتٌ غير مفهومةٍ كانت تأكل رأسي من الداخل، شعورٌ بالدوار لم يكن يفارقني فتارةً أغلق عيني مستسلمةً لغيبوبةٍ قصيرةٍ، وتارةً أخرى كنت أحاول أن ألملم الأصوات لعلني أصل لجملةٍ مفيدةٍ.
لم يكن هناك شيء حولي سوى سوادٌ يتزايد مع كل صوت جديد، ووجع يستقر أعلى صدري يمزق أدق خلايا جسدي، لم أكن أدرك حقيقة أين أنا؟ وماذا يحدث؟ وكيف وصلت إلى هنا؟
بعد مرور هنيهة من الوقت أدركت بأنني أسير نحو المجهول، في سيارة تنبعث منها رائحةٌ غريبةٌ كرائحة عفن القبو الذي أسكنه في عشوائيات المدينة على أطراف جبل شاهق اعتاد أن يشاركنا الهموم، ويرتب فوضى المكان دون قوانين وقواعد، فكل شيء هناك كان تحت سطوة الهوامش والحرمان، تقاسم ساكنوها التعب والعرق والسهر وكسرة الخبز والدور على موتورات تضخ المياه بصعوبة بالغة لبيوتهم المتهالكة كأعمارهم التي أفنوها في الركض باتجاه خاطئ، يتقاسمون أشعة الشمس الخجولة وكأنهم على موعد مؤجل مع الحياة.
كل شيء من حولي كان يدور من دون اتزان وكأنني في بعد آخر لا أعرفه وكأنني لم أعتد التعامل مع الزمن والدقائق فكل شيء يمر ببطء، بثقل ينهش إدراكي، كذاك البرد الذي راح يتسلل إلى داخلي ويترك خلفه رعشة قاسية.
ما كان يؤكد لي بأني مازلت على قيد الحياة، هو ذاك الهواء الذي يدخل أنفي بصعوبة وكأنه شهيقي الأول على هذا الكوكب، إلا أن الزفير لم يكن عملية أسهل على رئتيّ، بل لربما كانت تلك اللحظات تشبه الموت وخروج الروح من الجسد، وكأنما الروح تنتزع من بين أضلعي المهشمة.
ضجيج الصور في مخيلتي كان يدفعني للغثيان، وكأنها محاولة من جسدي لأتقيأ الظلم، لأعيد ترتيب كل ما حدث ويحدث، وافتح للأمل طريقاً كنت قد بدأت بتشييده قبل بضعة أشهر لا أكثر.
صوتي الذي كان قبل أيام عالياً بات في تلك اللحظات أسير حبال صوتية غير قادرة على دمج الحروف ببعضها، وكأنني لم أتعلم بعد كيف تنطق الحروف، لا شك أني كنت أحاول بشتى الطرق أن أقتل الخوف وأتمرد على كلمة “لا” التي كانت تخنقني لسنوات طويلة، لم يؤلمني حالي في تلك اللحظات بقدر ما آلمتني أمنيات شابت بداخلي، فلا أحد يعتاد الخوف والألم ولا أحد يعتاد الموت، لربما كنا نعيش من أجل لحظة كهذه، حتى الموت فيها سيكون انتصاراً محتماً.
ما كنت اتذكره على وجه التحديد وبطريقة لا تحمل الشك والتأويل أو حتى الرفض من تلافيف دماغي المتعبة بأنني “راما” هذا الاسم الذي صار رفيق ملامحي السمراء وشعري الأسود الطويل منذ ثلاثة وعشرين عاماً، كان لاسمي رنة خاصة يشعرني بالتفرد والتميز والقوة حتى صرت متيقنة أن لا أحد يحمل ذاك الاسم غيري على كوكبنا.
نعم؛ كوكبنا كنت أدرك على نحو جيد أيضاً أني من مكان ما من هذا الكوكب، مساحة جغرافية حملت جنسيتها، وتحدثت لغتها، وكبرت على عاداتها وتقاليدها، مساحة ليست بالكبيرة جغرافياً لكنها كانت حتماً تحمل في عمق تضاريسها تاريخاً طويلاً وتفاصيل وأحداثاً وذكريات كنت جزءً من بعضها، مكان ما على خريطة هذا الكون أهداني بعضأ من جيناته حتى صرت وكأنني صخرةً محفورةً في عمق أرضه.
رغم أي شيء كانت الابتسامة لا تفارق وجهي، ونشوة الانتصار تسكنني كل ما تذكرت بأنني أنا التي حطمت شرنقتها في سبيل الخروج من كهف مظلم، للاستيقاظ من سبات طويل ومعتم، كنت على يقين تام بأن الثائر لا يُكسر، بأن الثائر ينهض كمارد قوي بنبض خاص وحياة جديدة تليق بإنسانيته المسلوبة، ذاك المونولوج أقحم نفسه عنوة في رأسي ولم أكن أتفوق على التخلص منه، أو لربما لم أمتلك الرغبة الكافية للتخلص منه على نحو حقيقي بل كنت أتمسك به بكل قوتي.
قديماً قالوا الجائع يتكلم عن الطعام، المفلس يتحدث عن النقود، أما علية القوم وأصحاب البنوك فيتحدثون عن الأخلاق.
لعلهم لم يعايشوا يوماً الاعتقال لذلك لم يقولوا بأن المعتقل يتكلم عن الحرية.
في مساحتي الجغرافية التي أنتمي لها كلمة الحرية محرمة حتى على المعتقلين، في تلك الحدود التي ضاقت بساكنيها كان الجميع معتقلون في حدود مطبقة على صدورهم يتحركون مثلما يحلوا لهم ويتنفسون ويعيشون وحتى أنهم يخرجون إلى أعمالهم صباحاً حاملين أطفالهم على أكتافهم وبيدهم رغيف خبز وقطعة حلاوة يضحكون لربما من نكتة ما لكنها حتماً ليست عن الحرية، فلا أحد يجرؤ على التلفظ بها، تعويذة محرمة علينا وكأن تلك الحروف التي تشكلها استبيحت منذ عقود وكأنها الكفر بعينه، حتى الشيوخ وعلية القوم والمثقفون والباحثون عن هويتهم كانوا يحذروننا منها.
في تلك الحدود أتذكر جيداً بأن الأمهات كن يرضعن أطفالهن حليب الخوف من التمرد، ويفطموهن على الصمت، ويعلمنهن كيف لا يرفعون وجوههم عن الأرض، وكيف يكون الظهر منحنياً دائماً، وكيف يبدؤون خطواتهم الأولى بالقرب من الجدار حتى لو كان سيهدم فوق رؤوسهم، فالجوانب والهوامش كانت تليق بنا، أو لربما خلقت من أجلنا حتى هوامش الحياة كانت على مقاس خيبتنا جميعاً.
فجأة توقفت السيارة واختفت الأصوات دفعة واحدة، حاولت أن أحرك يدي لأتلمس ما حولي، لكن لم أجد شيئاً يعينني على فك القيود الحديدية عن معصمي، أو إزاحة العصبة السوداء عن عيني، حاولت مراراً ومرارا لكني فشلت بكل محاولاتي المتكررة للنجاة، لأبقى اسماً لفترة أطول لأحافظ على وجودي لتاريخ أبعد من تاريخ اليوم، لأكتب أكثر عن الحرية، لأعلم الصغار بأنه لا يكفي أن تكون إنساناً بل عليك أنك تكون إنساناً وكينونةً ووجوداً، وأن يكون لك صوتٌ وأن تتعلم الكلام والحروف، وبأن الموت في سبيل الحياة يبدأ من أربع حروفٍ قادرةً على ابتلاعك كثقبٍ أسودٍ لكنها تستحق.
حاولت كثيراً ليبقى ذاك الشهيق والزفير رغم قسوتهما يجدان في فتحات أنفي مدخلاً ومخرجاً للهواء، لأبقى أردد اسمي بصوت أعلى لأنني أستحق أن أكون متفردةً به؛ لا أن أكون نسخةً مستهلكةً ومستنفذةً.
في تلك الأثناء شدتني يدٌ بعنفٍ، ورمت بجسدي النحيل على أرضيةٍ قاسيةٍ مغبرةٍ، كانت رائحتهم قذرةً ونتنةً، أجسادٌ ضخمة لم أعرف على وجه التحديد كم كان عددهم، راحوا يركلون جثتي المتكورة أمامهم، ويطبعون وحشيتهم على تضاريس جسدي، ناهشين ما تبقى مني حياً أو شبه حي، قتلت أصوات دعساتهم صمت المكان واغتالت قهقهاتهم المتتالية صوت الكلام في رأسي.
سمعتهم على نحوٍ جيدٍ:
– وهي شو وضعا ماتت ولا لسه؟
– ماتت سيدي ماتت، مو هني بدهن حرية؟
– من إيمت معتقلة؟
– من أسبوع سيدي شحطوها من مظاهرة عم تطالب بالحرية
– أي اقبرا وحطلا رقم خلي الحرية تفيدهن
– حاضر سيدي
كان المكان مزدحماً جداً بأكوامٍ من الجثث، وكنا كلنا أرقاماً بلا أسماء، متكورين على أنفسنا، بنصف أجساد وبكثيرٍ من الدم، حينها أدركت بأني “راما” من سوريا؛ اعتقلت لأن حبالي الصوتية تعلمت الكلام ونطق الحروف الأربع حرية، لأني أدركت بأن للحرية رائحةٌ وصوتٌ.