من عتبات الحياة
لم تكن تلك الأيادي مهيأة للعمل في حقول البطاطا.
متلثمة بوشاح وسائر العاملات يتقين به الهجير، ويزيد من استيائها المعاملة الفجة من أم أكرم (المسؤولة) تقسو عليها بالكلمات وتكدها أكثر من طاقتها علها تظفر برضا رب العمل.
ومع الغروب بثت لها أم أكرم في كيسها دراهم معدودات لتعاجل إلى مخيمها حاملة اللبن والخبز وقطع من الحلوى (رأفة بما يغبط أطفالها).
وحالها في المخيم أمقت منه في العمل وأشد وطأة كالمستجير من الرمضاء بالنار.
كانت خيمتها لا تقيها بأس المطر، ومواد التدفئة الرخيصة تركت أحمد ومعاذ بصدور كمدمني القِنَب والأفيون.
أما عن أهل زوجها فصراع لا ينتهي لعل كلمات أم أكرم القاسية رقيقة أمام تقريعهم.
ينتهي موسم البطاطا وقد تمكنت حليمة من توفير بعض المال، فهمّت أن تشتري هاتفا علها تزيد من تحصيلها العلمي وهي الطالبة الفذة في كلية الاقتصاد ومن يدري لولا التهجير من مراتع الطفولة ربما كانت الآن قد حصلت على دكتوراه في الاقتصاد.
في الطريق رأت ليلى ذات السبعة عشر ربيعاً، وبعد تبادل التحايا وبث الأشواق استفزت ليلى طموح حليمة للعمل في نقل المازوت بين ريفي حلب وإدلب والاستفادة من فروق الأسعار.
لتقفل عائدة إلى بيتها يحدوها وهم الثراء السريع.
في قارعة الطريق وقفت مع غيرها من العاملات، وبعيونها المتقدة كانت تنظر إلى السيارات وتشير بيديها علَّ أحدهم يقف ويكفيها وعثاء الترجل وبُعد المسافة التي لا تطال إلا بشق الأنفس.
حليمة كم جنتي من المال “قالت فتاة”.
أربع مئة ليرة “أجابت حليمة”.
هذا جيد أما أنا لم أجن سوى مئة وخمسين.
عزيزتي لقد قدمت من الفجر، أما أنت فلم تأت إلا وقت الضحى.
في الحقيقة كان العمل ذو مردود جيد تمكنت حليمة من خلاله في بضعة أشهر أن تجني ما تجنيه في العمل الزراعي في أكثر من عامين.
فتأنقت بملابس أطفالها وغذت خيمتها بالكهرباء، ووزعت حصص اللحم قربانا عن روح زوجها حبيس صيدنايا وقتيلها، وأما الهاتف فلم تستفد منه قط وقد أضحى حلبة تنافس بين أحمد ومعاذ يتسارعون إلى التسلية به كفرسي سباق.
هذا العمل وافر المال كان في منتهى العنت والمشقة، تمشي حليمة الأميال الطوال جيئة وذهابا عدة مرات في اليوم وتحمل قلتين ليست بأفضل إحكام يتناثر منها المازوت فيلطخ ثيابها، وربما وصل الى أصل جسدها وتدركها الراحة والرحمة عندما تصل إليها إحدى العربات (وهذا لا يتوفر في الأغلب ولا يخلو من عواقب كالمضايقة من بعض المسيئين) وهذا ما أوتيت من قبله حليمة.
استسلمت مجموعة البنات وقررن إكمال المسير عندما لم تقف السيارات بينما بقيت حليمة وليلى تنتظران.
لم يمض الكثير من الوقت حتى أنزلت حليمة نافدة السيارة وبدأت بالضحكات الخبيثة وتنظر إلى رفيقاتها تعلمهم أنها الأوفر حظا حيث وقفت سيارة فارهة أصعدت حليمة وليلى وقد اطمأنتا لوجود زوجة السائق عن شماله ولأن الرجل تبدو عليه دماثة الأخلاق وقد ابيض صدغيه.
هل أنت متزوجة؟ “قالت المرأة لليلى”.
ليس بعد يا عمه.
وأنت؟
أنا مترملة منذ عام 2013.
تتبع السائق بمرأة السيارة حليمة وبدا وكأنه أعطى أذنيه أكثر للحديث.
وبعد السؤال عن الحال والمسكن والأطفال واسى الرجل وزوجته حليمة ببعض المال، وحرص أن يعطيها الرقم عله يكسو الأطفال في الأعياد.
كان الحاج علي تاجرا ميسور الحال يرأف باليتامى، وقد نما جسمه على قصعات المحسنين كونه نشأ يتيما ثم ما لبثت حليمة أن بلغت مأمنها.
وفي يوم شات قد اقترب غروب شمسه، وبخت حليمة نفسها وقالت ليتني استرحت اليوم كسائر الفتيات، وعندما جنَّ الليل أكثر توحشت وزاد اضطرابها وبعد طويل وقت وقفت عربة قد ألاحت لها
هل توصلني في طريقك؟
بكل تأكيد “قال السائق”.
ثم هرعت للخلف
المعذرة توجد بضائع وأدوية “قال السائق”.
فاضطرت حليمة مجددا أن تخفف من احترازها ومن أمانها الشخصي وجلست بمحاذاته.
ساد صمت رهيب عند نقطة التفتيش؛ قطعه تربيت منير على المقود وتنفسه العميق.
وعندما لم يبق بينه وبين موظف التفتيش بضع سيارات التفت إلى حليمة وقد تفصد جبينه عرقا وقال هلا أخفيت تلك الحبوب في جلبابك فهم لا يفتشون النساء.
فارتبكت حليمة وارتعدت ….
لكن ما هذا؟
إنها حبوب لمرضى الأعصاب من الإتحاد الأوربي وليس لدي تصريح بنقلها
وافقت بسذاجة!!!
وأسوأ ما جال في خيالها مصادرة تلك الحبوب وتضرر الرجل المحترم هذا.
لم يكن القاضي مقتنعا بمحضر الادعاء بل مالت نفسه أن منير هو صاحب الممنوعات بالرغم من برود أعصابه ولباقته في الدفاع عن نفسه لكن لا مناص أمامه سوى إخراس قلبه والحكم بعقله لما رأى ضعف دفاع حليمة -كونها مرتبكة جدا وخائفة من العار- ولوجود دليل عيني.
كانت الإصلاحية حسنة السمعة فهي مدعومة من منظمات المجتمع المدني، وكون المرأة مصانة في المجتمع السوري.
بدأ تأقلم حليمة بعد الأسبوع الأول وزال عنها رويدا اكتئاب ما بعد الصدمة لكنها لازمت الوحدة ولم تختلط مع السجينات وخاصة أن منهن من تنمر عليها وأكثر ما كان يعينها زيارة أطفالها المتكررة وجدهم وكتب التأهيل الموجودة على رفوف السجن، وبعد قضاء أكثر من نصف مدة السجن وتحديدا في اليوم الخامس من الشهر الثامن لاعتقالها نادت الموظفة أم عباس “حليمة… إخلاء سبيل”.
ومع فرح النزيلات لها ….. كانت حليمة منقبضة ومرتابة…
ثم باشرت برص أمتعتها، وودعت الجميع وكذا ناصيف الصغير والذي تحمل جريرة نزوات الهوى ووعود الزواج الجوفاء…
جلست في الإدارة تنتظر تسليم أماناتها
تنهد المدير ثم قال وافق القاضي على طلب الترحم وأفرج عنك
أبرق إلينا مخفر الشريط الحدودي بأن جرارا زراعيا دهس المرحوم معاذ مع الأسف
شهقت بصوت أفزع الجميع وأبكى الرضيع ناصيف وعاجلت بالإنكار وتكذيب المدير ومدت يدها أسفل حجابها وشدت ما حوتها يداها من شعر وبدأت بضرب وجهها باكية، ما اضطر مدير السجن لطلب أبا زوجها المُنتظر في الخارج.
وصلت إلى المخيم والناس ما فيهم شيئا مشترك سوى الحزن والشحوب
ولما رأت معاذ مسجى بكت وأبكت ثم شهقت وغابت عن الوعي.
كانت الحياة بعد هذا المصاب في غاية الشحوب والرمادية، واقتصرت حياتها على تعاهد القبر بالزيارة وزرع الآس والورد ونحل جسمها، واسود أسفل مآقيها ومَن جَهِلها خالها في العقد الخامس.
وتأبى المصائب أن تأتي فرادى فيفرغ مخيم حماه الثاني من ساكنيه
ويقطع أهله في الأرض أمما – كونهم نُقلوا لمساكن الطوب-
فتخسر البيئة الداعمة والحانية بالرغم أن طبيعة السكن أفضل.
ولأن المحن لا تخلو من المنح فقد كفاها المحسنون وأفاضوا لها النوال، وكانت تصلها شهريا عبر مكاتب الحوالات مبالغ ضخمة من جهة تجلها فانكبت على العبادة مستغفره لزوجها وبنيها.
ثم حبب لها التدريس فجمعت الصغار واليافعين لتعلمهم ولقد كان هذا ديدنها في المخيم القديم، ولكن هذه المرة بدون أجر ويشفي التقادم حُرَقَهَا وهي على ماهي عليه
وفي غُرَة الخامس والعشرين من رمضان (بعد عامين ونيف من فقد معاذ)
انهالت رسائل المهنئين بقدوم العيد وكان من ضمنهم رقم ليس من ضمن جهات اتصالها
من معي؟ كتبت
أم قصي
يا الله بعد زمان!!
كانت أم قصي صديقة قديمة وجارة في المخيم.
هاجرت وزوجها ووصلوا وستفيليا
عرَّفتها كيف تمكنت من الحصول على الرقم، وبعد دردشة طويلة المدة افترقتا بعد تغليظ المواثيق على التواصل.
انشرحت حليمة كثيرا بهذا الوصال بعد أن ظنَّت أن لا تلاقيا.
وبعد دقائق يهتز الهاتف وإذ بمقطع فيديو من أم قصي.
يظهر فيه قصي في برنامج المواهب الألماني يثني على آنسته حليمة بعد فوزه في مسابقة الحساب الذهني على مستوى البلاد.
سُرت كثيراً وأحسَّت بشعور غريب من الدفيء وازادت رغبة حليمة تباعاً في إكمال الجامعة، وشحذت همتها مؤلفات ستيفن كوفي التي تعرفت عليه عندما قرأت في السجن أحد كتبه “السنديانة الصلبة”.
وعلى الرغم من جيش المحبطين ونقابة المتقاعسين، استمرت واجتهدت فتراها ذاهبة للجامعة ثم تعود لتعليم الطلاب وتطورت موهبتها في الارشاد النفسي وكتب الوعي، فزرعت الأمل في نفوس المطلقات ونبهت من خطر المخدرات وحثَّت طلابها على التمسك بأحلامهم، وبدت مثل الرحى التي تهشم الدقيق لا تتوقف عن العمل والعطاء حتى صارت النجمة في الجامعة الملهمة في الحي.
وعندما شعرت بالسكينة استطاعت أن تبثَّها فزارت أم أكرم بعد تلك المدة، وسامحت منير والذي قتل على أثر خلاف مع مروِّجي الممنوعات (كانت تتعقبه وتستقصي عنه وترى أنه سبب موت ابنها).
وقبلت بخسارة معاذ وتصالحت مع قدرها.
وأهل زوجها نالهم نصيب من بريق إفاضتها تَكْنُسُ لهم وتغسل لباسهم وتجزل لهم العطايا، وساهمت في تغطية نفقة الحج معهم.
ولأن الإنسان عبد الإحسان لم يقف عم حليمة في طريق خطوبتها…
فقد كان أحمد شخصية مرموقة طويل القامة عريض الهامة بعينين خضراوين متأثر بالعادات الفرنسية في الاتكيت واللباس. فقد عاش في باريس أيام الاختصاص غير أنه يقرظ الشعر بنفس عربي خالص. يبدو أن طباع الأوربيين قد أثرت على حياته الاجتماعية حتى قرر أن ينهي حياة الرهبنة عندما وقع في شباك حليمة.
لطالما أثنت رشا على حليمة ونقلت العَطر من سيرتها وجدها وعالي همتها لأحمد وتتوسع وتستفيض بوصف معانيها وجمالها وأنفها الفرنسي فيروق له ما يسمع وهو الشاعر والمتبحر في الخيال ولم تلبث تلك الأحاديث العفوية أن تحولت لاهتمام فغرام وفي مقهى الجامعة بعد اللقاء الخامس ضربت عاملة المازوت وطبيب الصدرية ورشا ميعاداً لإحضار الأهل والخطوبة الرسمية ويمضي إيقاع الحب ويحدد موعد الزواج بعد التخرج والذي بات قريباً.
وتتخلل تلك الأيام القصائد الغزلية والتي أضرمت سويدائها ولامست شغافها…
وكانت حليمة ممتنه من أخلاق خطيبها وطَيٍّبِ معشره لابنها وكيف أنهما قد سجلا في نادي اللياقة، ويشجعا الفريق عينه وبينهم أسرار وعلاقة خاصة لا يشاركوها حليم
———————————————————————
أمي اسكتي معاذ أبي قد غضب هو لا يستطيع التركيز إنه يكتب “صرخ أحمد”.
خرجت من الحمام الفاره وقد لفَّت المنشفة على شعرها وقناع العسل يلمع على جبينها ووجنتيها وبينما تلاعب معاذ حملته واتجهت لغرفة الجلوس بعد أن رن الهاتف.
نعم أنا هي
نود أن تشاركي فريق من جامعة ملاطيا في تطوير تطبيق مدفوع معتمد في خوارزميته الرئيسية على رسالتك البحثية العرض والطلب في الدول النامية والأسواق الناشئة “قال المتصل”.
ثم تبادلا الحوار العلمي ليقرروا السفر.
ومن تطبيق إلى كتاب فندوة أو مقال لمعت ابنة حماه وذاع صيتها وفازت في كثير من المسابقات الدولية، وكُرمت في نيجيريا، وفاض المال، وكنزت المصاغ، واشترت التحف، وحولت عيادة زوجها إلى مشفى ومنحت ابنها أفضل تعليم ثم رزقت بسحر في لندن.
وفي حديثها مع صحيفة الغارديان دعت عاملة المازوت إلى رأسمالية أخلاقية، وأبدت رأيها في بيانات التضخم وأسعار الفائدة وتكلمت عن العملات الرقمية والتجارة الحرة.
وبعد تسعة أعوام من الاغتراب ألقت عصا التسيار، وعادت وقبل أن تخلع وشاح السفر ذهب إلى مثوى معاذ تعتذر له عن الانقطاع وعدم تعاهد ورود القبر، ثم مالت إلى مسكنها القديم وقد كبر الأطفال وتغيرت الديار ولم تعرف الناس سوا إحدى الفتيات التي كانت من تلامذتها، وقد سرت أيما سرور عندما علمت أنها أصبحت ممرضة وتدرس أطفال الحي.
وعاودت حليمة سيرتها في التعليم والإحسان والبذل.
الزمان: ١/٦ /٢٠٢٨
المكان: مدينة إدلب وجوهرتها التجارية سرمدا.
نادت المآذن تنعى التاجر المحسن الحاج علي ابن مصطفى.
لقد كان الرجل الذي أوصل مع زوجته حليمة وليلى في سابق السنين.
وفي الحقيقة هو الذي أجهز على معاذ حيث أنه كان محب لصدقة السر، وبعد أن استدل على إقامة حليمة حمل لهم الفاكهة واللحوم وذهب إليهم في مساء اليوم الذي كان صباحه إطلاق سراح حليمة… انتظر حتى هجعت الناس وصادف صوت سيارته استيقاظ معاذ باكيا على والدته ولما سمع صوت السيارة فرح و ظن أنها أمه وقد أحضرتها الشرطة فخرج وركض للشارع ومع ضعف بصر الحاج علي وخفوت الإنارة دهسه ثم رجع للخلف من الارتباك فأجهز عليه لم ينتبه أحد لما جرى كون الخيمة بعيدة نسبيا عن التجمع العام، خاف الحاج علي ولم ير بد من الهروب، وأدى دية معاذ حوالات مالية، وحج عن معاذ واعتمر وتصدق بشطر ماله عنه ومات و مات معه ما جرى.