من ذكريات القرية
الساعة حينها كانت الخامسة، وعند صلاة الفجر بالتحديد حيث بدأت هناك في أقاصي الأفق الشرقيّ تلوح أولى علامات النهار…ضوءٌ ناعسٌ جميل لازورديّ، ونسمات باردة عليلةٌ تهبُّ من مغرب، ويتناهى إلى سمعي بعض صيحاتٍ من ديكٍ هناك…. وصيحات لشاويس فعّالة يحثّهم على الإسراع…
يالله قد طلع الضوء الصبح استصبحوا….. خلصونا…. استعجلوا…. خلص النهار …. لم يكن بمقدورنا النوم بعد صلاة الفجر في تلك الأيّام لأنّ عقوبة النائم بضع لسعاتٍ من البريم الّذي ربطه جدّي جيّدا بگضاضته. وبعض من المسبّات والزورات…. نعم إنّه موسم قطاف الزيتون يا سادة
قد كان النعس منّي حينها قد أخذ مأخذا بعد أن ذهب صوت جدّي من فرط الصياح علينا، نحن الشباب الّذين لا نعرف قيمة هذه الزيتونات والّتي نأكل منها زيتاً طوال العام) …يالله قوموا أحمد …روح فيّق ولاد عمّك وأنا بروح فيّق نسوان عمامك…يالله جدّي قايم قايم…. ونسيت أن أقول لكم أنّ ثلثي شباب عائلتنا يتهرّبون من الذهاب لقطاف الزيتون بحجّة الجامعات وامتحاناتها، وها أنا اليوم بعد ثلاثة عشر عاما من تلك الذكريات وقد ارتدت الجامعة عرفت أنّ هذا ليس بموسمها. وعودا على ذي بدء وبعد حروب طاحنة مع النوم الّذي خيّم فوق رؤوس أولاد أعمامي وعمّاتي يستيقظون وأمشي معهم إلى فناء دار جدّي (مكان التجمّع وكلٌّ قد شكل “مشّاطته” بين نطاق البنطال والبنطال نفسه ووضع زوج القفّازات الّتي تسلبطنا على أبي فأخذناها من صيدليّته)
كنّا نجمع المشّاطات في درمولٍ واحد… إلّا واحدنا الّذي تكون مشّاطته غالية عليه…وتلك تكون مميّزة… والتميّز في المشّاطات يا سادة يكون بأن تكون المشّاطة نايلون حمراء أو زرقاء مو مدقوق فبها بسمار.
فتلك يأنف صاحبها أن يضعها بين وضيع مشّاطاتنا…نجمع المشّاطات والشوالات والدراميل والسطول ونضعها في الڤان وويلنا ثمّ ويلنا إذا نسينا الهروس…فنُتّهم حينها بتضييع الوقت والتهرّب من الحواش… والمماطلة ساعة أو نصفها…نركب في الڤان…طبعا جدّي وأبي وأكبر الذاهبين من الأمام….
وباقي الأطفال من الخلف وتبدأ حينها المعركة بين الصبية داخل الڤان…
لك أجري دبحتني…. ليش دستلّي عليها
لك مشّاطتك جقمتني… شيلها عالسوا
زحّلّي أنا حدّ الشبّاك…عجب خيّي!! شوي أنا وشوي أنت
دي كول هوا…. حاج تحكي عليّي…
عبتتسهسكوا عليّي مو؟
والله لقول لأبويي
يابوووووووووو…… خاليييييي… فلان عبيتضحّك عليّي… خلص يا ولاد… فهمنا
ومن رحمة الله بنا… أن كان كرم الزيتون قريباً وإلّا لأفنى بعضنا بعضا داخل السيّارة… وحين ننزل كنّا نستشعر تلك التربة الحمراء وبعض الكدر يتفرقع تحت قدميك خشت خشت خشت…
نحن الآن نمشي باتّجاه أولى أشجار الزيتون على وقع الصياح الّذي خيّم على الجوّ وقد ولّد هذا الجوّ جدّي… يالله استعجلوا…. نايمين…. عبتمشوا عبيض مو …. صار الضهر، يالله النشامى يالله وتتوالى الأوامر بلهجة ذلك الجدّ القرويّ ولهجته الريفيّة.
يوسيييف يا يوسيف أنت مدّ الشادر تحت الزيتونات….
النسوان من تحت بس الطويلة منهن تطلع عالسيبة وعالبرميل…
العجّان بلقطوا الزيتون من تحت الشجر يالله عالسريع… يالله
آتي إلى جدّي…. جدّي أنا من العجّان ولا أشو؟
روح انكب لقّط زيتون من تحت الشجرات قبل ما يمدّوا الشوادر يالله…
حاضر جدّي حاضر… بعدين أشو هيك لابس…؟!
جاي على عرس مو… تفه
أُدير ظهري مكسور الخاطر وأبدأ لمّ حبّات الزيتون المتساقطة من أمّها…
ما بدّي شوف ولا حبّة هه….
بعد أن أمضيت خمس دقائق من لمّ الزيتون من تحت الشجر أذهب لأقطف بعضا من الزيتون من أشجاره…
أسمع أحاديث أعمامي وعمّاتي… ونساء أعمامي…
والله نعسانين… هلكانين…. لسا بكّير….
يأتي جدّي بعد أن أنهى جولته التفقّديّة…. أنا جايبكن تتسولفوا مو يالله اشتغلوا…. حاج تْلْعِّب….
هيك هيك الواحد بيكمش الغصن… كمشو عالسوا…لك كل شي بهالحياة فن…. كميش الغصن وحوشو… مشان ما ينكسر…لا تچرتم الورق تچرتم…. دبّ المشّاطة من إيدك ولاك… حوش بإيديك أنت….
عهالحالة ما بضل ولا ورقة بالشجرات….
يذهب جدّي… جولة أخرى…
يتمتم عمّي يوسف ببعض كلمات
(بقا بيزرعولهن نصبتين زيتون أوّل عمرهن ومنضل أحنا طول العمر ملتاشين فيهن)
أشو عبتقول ي يوسيف؟!
ماش يابو ماش… عبقول ما شاء الله الزيتونات حاملات هالسنة
دي اشتغل اشتغل…
يهدأ الجوّ قليلا…يكسر هدوءه صوت جدّي…. هي هييييييي علينا….. لك ليش عبتعجّق عالزيتون…. كل وحدة جايبتلّي عرّ عجّان معها…. بكرا والله ان شفت واحد منكن لألعن هيك وهيك….
تدمدم النساء (إي شباك ي عمّي عجّان وعبشمّوا هوا)
يشمّوا خ…. ى…. يروحوا ينكبّوا بالدار… عندي روضة هون لأنّو…
يأتي أخو جدّي عمّي الحاج علي رحمه الله…وقد كان مشرفاً على كرمه بجانبنا… حجّي يا حجّ أحمد…
تعال تعال خلّينا نروح نشوف هالزيتون…. يذهبان سويّا… ومتل ما بقولوا بتفلت العجل…
من كان يلمّ الزيتون يصعد على الشجرة… ومن كان على البرميل ينزل وينجضع…
كان عمّي سليمان الوحيد الملتزم… شغل عطول وعمّي يوسف طبعا يشعل سيكارته منتهزا الفرصة…
وحين يرجع جدّي بعد ساعة…. أو بالتحديد عندما يلوح ظلّه في الأفق يعود كلّ إلى عمله….
حين ننتهي من قطاف شجرةٍ وننقل إلى شجرة أخرى كان لا بدَّ من إفراغ ما يحتويه الشادر من الزيتون في الشوالات…. يمسك الشادرَ اثنان من ذوي الخِبرة ويقومان بلمّ أطرافه إلى بعضها… ويمسك اثنان الشوال….
والويل ثمّ الويل إن سقطت حبّة أو اثنتان على الأرض حين الإفراغ.
لك ليش مانكن كامشين الشوال عالسوا؟! يصيح جدّي من بعيد
حُدي مِت عينكن…. كل واحد طول اللودة وما بيعرف يفضّي شويّة زيتون….
أنا وقت كنت قدكن كنت فضّي الزيتون لحالي….
كنّا نسعى للتهرّب قليلا من العمل فنسعى إلى أن نصلّي صلاة الضحى (ونحن لم نصلّها في حياتنا)
وصلاة الضحى تصير وقتها أطول من صلاة التراويح…. أذكر مرّة أنّ جدّي رأى أختي تصلّي صلاة الضحى وقد أطالت فيها…فناولها جِمعاً على ظهرها…. هلّق صرتي ولي مو… الله يلعن صباحك…
قومي عالشغل قومي….
يالله جدّي
أذكر حينها جيّدا أنّ بعض نسوتنا أخذن إلى الأرض بيضاً مسلوقا وبعضاً من زيتٍ وزعتر…ورآهنّ جدّي بعد ساعة من العمل يفرشن الطعام ويردن أن يأكلن وما إن رآهنّ حتّى انهالت الدموس من كلّ حدبٍ وصوب… واستحال لون البيض أحمرا من لون التراب…. وشربت الأرض الزيت وأكلت الزعتر….
جايات عمطعم مو
قمني اشتغلني فزرن يملخ عيونكن
يالله عمّي قايمات
ويحدث أيضا أن يتسلّل أحدنا إلى بستان بجانبنا يأخذ برهة من راحة فإن رآه جدّي ف يا ويلو ويا سواد ليلو….
وكيف أحدّثكم عن مسابقات العتابا بين الشغّيلة…. كلّ ارتقى شجرةً ويحاور صاحبه على الشجرة الأخرى…
وكانت العتابا على ضروب… فمنها المديح ومنها القبيح… ومنها الذمّ ومنها الشتم
فكنّا مثلا نقول:
يا محمّد طلّع وين عبتجي ضربتَك
ون جيتك يا كلب لمردعَك وضَرَبتَك
وأنت متل النسوان ماي قويّة ضربتَك
يا نذل يا كلب العرااااااااب
فيُتبِعُها قائلها بقوله: يا دللييييي
ويحمّس الباقون المهجوَّ بالشعر…. بقولهم: قويّة… قويّة كتير… دبحك… جابك أرض أرض… يالله رد…. رد لشوف
فأردُّ:
والله يموسى البسّام أنت واحد گصّاص
ولساوي حديثك بين الناس روايات وقصص
ون جيتك لأقطعلك لسانك وجناحك قصّص
يا گلب يا نذل الأنذااااال…. ويلاااااه
فيمدح الباقون قولي بما مدحوا فيه الأوّل…
ويطول ويطول هذا الجوُّ الجميل فينسينا ما كنّا فيه، وحين نتذكّر هذا الجوّ الجميل ننسى أيضا ما نحن فيه الآن…
لا ننسى اجتماعنا حين عودتنا على ممشى بيت جدّي وقد هيّأت لنا جدّتي أطيب ألوان الطعام…. وجلس جدّي بجانبنا يأكل ويقول…هاتي خبز هاتي… الشغّيلة بياكلوا…. ويضحك جدّي ويبتسم في وجه الجميع….
ويعمر المجلس بالضحكات والنكات والطرف….
وننسى….
شرح المفردات:
البريم: العقال الّذي يضعه العرب على رؤوسهم.
الگضاضة: غطاء رأس أبيض يرتديه كبار العمر وهو تقليد دارج جدّا في مناطقنا.
المشّاطة: أداة نستخدمها في قطاف الزيتون، وهي عبارة عن عصا خشبيّة قصيرة في آخرها مشط من نايلون ذو خمس أصابع أو ستّة.
تسلبطنا: احتلنا.
درمول: وعاء يصنع من دواليب السيّارات ذو يدين يستخدم لنقل الأشياء.
الشوالات: مفردها شوال وهو كيس منسوج من النايلون يستخدم لتعبئة الشعير والحنطة وكافّة المحاصيل.
الهروس: مفرده هرس وهو بساط يصنع من الشوالات والأقمشة العتيقة ثمّ تخاط بعضها إلى بعض ويوضع تحت أشجار الزيتون ليتساقط الزيتون عليه حين قطفه.
جقمتني: فقأت عيني.
زحّلّي: ابتعد قليلا.
عبتتسهسكوا: تضحكون بخبث.
الشادر: هو نفسه الهرس وجمعه شوادر
السيبة: سلّم من حديد.
تچرتم: على وجه غير دقيق.
نصبتين: واحدتها نصبة وجمعها نصبات وهي الشجرة أوّل غرسها.
ملتاشين: مضطربين.
عبتعجّق: تمشي بعشوائيّة.
عرّ عجّان: الكثير من الأولاد ومصطلح عرّ لا يطلق إلّا مع الأولاد.
بتفلت العجل: مثل سائر عندنا وهو يعبّر عن اضطراب الأمور.
كامشين: ممسكين.
اللودة: بناء من طين كان يسكنه الأجداد ويضرب بها المثل عن ضخامة الحجم والطول.
جِمعاً: لكمة.
الدموس: واحده دمس وهو الحجرة الّتي تستخدم للضرب.
فزرن يملخ عيونكن: مثل دارج في مناطقنا يشير إلى العتاب والتقريع.
لمردغك: سأمسح بك الأرض.
گصّاص: كذّاب أشِر.