يقول مالك بن نبي: “هناك أيضا أنواعا من الجراثيم الناقلة للأمراض الاجتماعية، وهذه الجراثيم الخاصة أفكار معدية، أفكار تهدم كيان المجتمعات أو تعوق نموها”. مثل هذه الأفكار تشكل جزءا لا يتجزأ من الثقافة العربية ومفرداتها؛ منها ما له علاقة ببنية العقل العربي، ومنها ما هو مستجد كرسته أنظمة الاستبداد التي لا تزال تبدع في الأساليب والممارسات التي تكرس بيئة ملوثة تحد من قدرة غيرهم على إحداث تغيير لاحق.
يتحدث علماء النفس عما يسمونه بالتحيز التأكيدي، وهو أحد الطرق المختلفة التي تفسر بها أدمغة البشر المعلومات، ويتمثل بالبحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها. وهم (علماء النفس) يقولون إن معظم ما نعتقد به هو عبارة عن معلومات قيلت لنا لأول مرة، بمعنى أن الإنسان يتلقف المعلومة أو المعلومات التي يسمعها لأول مرة حول قضية ما أو حدث ما بشكل مختلف، إذ تتخذ هذه المعلومات طابع الثبات، ولا يلبث العقل أن يبحث عما يؤكدها ويتجاهل ما يتعارض معها.
يتلقى البشر معلوماتهم الأولية – غالبا – في السنوات المبكرة من عمرهم حيث أن المخ لم ينضج بعد، لكنه يمكن لبعض المعلومات الأولى حول قضية ما أن تتخذ نفس الطابع عند الأفراد على اختلاف أعمارهم، فعلى سبيل المثال اقتنع البعض بمعلومة أولى سمعوها تقول إن اللقاح ضد “كوفيد” يسبب الموت، ثم ما لبثوا أن تحولوا لباحثين حول العالم عن حالات مات أصحابها نتيجة اللقاح، فيحصلون على عدد قد يكون مساو لمن مات بشربة ماء، ولكنهم يعتقدون أنه برهانا كافيا لمعتقدهم متجاهلين مليارات الحالات التي تلقت اللقاح ولم يحدث أن اختطفهم الموت.
على هذا المنوال يجمع المدافعون عن إرث التخلف والاستبداد أدلة تثبت الانحلال الأخلاقي عند المجتمعات المتحررة، أو تثبت أن تحرر المرأة وحصولها على حقوقها يؤدي إلى تفكك الأسرة وخراب البيوت. وحتى النظام الديمقراطي الذي هو من المفترض أن يكون هدفا نهائيا للشعوب الثائرة على الظلم والاستبداد لا يسلم من الاتهام بالزيف والخداع والتناقض؛ علما أن كل ما يقال في هذا السياق يمثل التناقض بعينه؛ إذ كيف لمطالب بالحرية والكرامة أن يقدم الدليل تلو الدليل أن المجتمعات التي اختارت الديمقراطية كنظام حكم تتحقق فيه الحريات والعدالة وتحترم فيه كرامة الإنسان هي مجتمعات فاسدة؟!
كتب أحد السوريين المقيمين في إحدى الدول الديمقراطية تعقيبا على أحد الأشخاص وقد استعرض عدد جرائم التحرش في إحدى الدول الغربية كمثال على انحلالهم الأخلاقي: إن ما ينضوي تحت مسمى “جريمة تحرش هنا (في الدول الغربية بالعموم) هو عشرات، وربما مئات الحالات؛ منها على سبيل المثال: النظر إلى امرأة في الشارع بطريقة غير لبقة، وإننا إن طبقنا قوانينهم في بلداننا قد نحصل على رقم أكبر من هذا الرقم لجرائم التحرش التي تحصل في شارع واحد من شوارع مدننا، وذكر أحد الشوارع في المحافظة التي كان يعيش فيها قبل سفره كمثال على ذلك.
بهذا المنطق العلمي المقارن؛ ماذا لو أخضعنا معظم أفكارنا المعيقة للتقدم والمناهضة للحرية؛ للفحص والمقارنة بعد تعطيل آلية التحيز التأكيدي قدر الإمكان؟ فعلى سبيل المثال: ماذا لو جربنا معرفة نسبة الفاسدين والفاسدات في مجتمع متحرر وقارناها مع نسبتهم في مجتمع مغلق؟ وماذا لو بحثنا في مستوى الانحلال الأخلاقي – على اختلاف أشكاله – في المجتمعات المتحررة قياسا إلى مستواه في المجتمعات المقهورة؟ أغلب الظن أننا لو وضعنا معظم أفكارنا تحت هذا المجهر. مجهر التحقق من المعلومة عن طريق المقارنة سوف نحصل على نتائج تتناقض مع معتقداتنا؛ خصوصا تلك الأفكار والمعتقدات الموروثة عن قوى القهر والاستبداد.
المشكلة مع هذا النوع من الأفكار إضافة لكونها تهدم كيان المجتمعات وتعيق نموها فهي تكتسب صفة الديمومة تتناقلها الأجيال من جيل لآخر كإرث ثقافي ومعرفي ينتقل من جيل لآخر عن طريق التربية الاجتماعية. كما أنها بعد أن تصبح من بين مكونات العقل الجمعي تخلق بيئة، أو موقفا محرجا لكل من يحاول المساس أو التشكيك بتلك الأفكار والمعتقدات. وهكذا تخفت الأصوات القادرة على التنوير أو تخنق. وفي أحسن الأحوال تهمل. ولعل هذا السبب بالإضافة إلى طبيعة البشر المقاومة للتغيير والمحبذة لمنطقة الراحة هي التي دفعت أغلب المفكرين والباحثين الاجتماعيين إلى الاعتراف بأن عملية تغيير الأفكار لدى المجتمعات هي عملية معقدة وبطيئة؛ يمكننها أن تتسارع فقط مع الأحداث التاريخية الكبرى.
يقول “غوستاف لوبون”: “إن بداية النقد للأفكار القديمة هو بداية موتها”. ويصبح هذا النقد أكثر فاعلية عندما يتخذ طابعا علنيا ويمارس من قبل أكبر عدد ممكن من الأفراد. كذلك عندما يتحول من انتقاد الأفراد إلى انقاد الأفكار، فالاستبداد والقهر فكر قبل كل شيء. ومن أجل ردم الهوة بين الأفكار والشعارات لتكن البداية من الجرأة في نقد الأفكار البالية.