كنت ممدداً على العشب، مغمض العينين، ألعب الغميضة مع بنات أفكاري.. أغنامي ترعى بأمان، وقع أقدام يقترب أكثر فأكثر، لم أشأ أن أنتشل نفسي من قعر شرودي، اقتربت الأقدام مني.. ظلّها يخيم فوق رأسي.. شيءٌ ما يعبث بشعري، أنفاس تقترب من وجهي.. تتصاعد الأنفاس وتزداد حرارة وتقترب من شفتي.. لحظات صيفية ساخنة.. فتحت عيناي.. تأملت عيناها البيضاويتينن ففرّت مذعورةً، ثم سرحت بالقرب مني تقضم العشب الطري..

دوي انفجارٍ بدّد صمت المكان، ركضت الغنمات خلف السفح مذعورةً والعنزة الحمراء راحت تقفز على غير هدى.. صاح بي أبي: أحضر الغنمات إلى الحظيرة.. هذا يكفي.. 

كانت الطائرة قد قصفت السّوق الشعبي في كفرنبل متسببة في مجزرة راح ضحيتها ثلاثة وثلاثون شهيداً بعضهم جثث متفحمة..

كان نزوحنا الأول إلى أطراف كفرنبل، كنت أظن أن القصف يلاحقنا نحن فقط لكنني اكتشفت لاحقا بأن كل شبر في إدلب قد تم قصفه بأعتى الأسلحة وأشدها فتكا..

جبل كفرنبل… تلك المنطقة التي وجدنا فيها بعضا من الأمن الذي كنا نحلم به ولو لبعض الوقت.. 

كان أبي شديد الحرص علينا، بالرغم من خلافاتي المتكررة معه… يريدنا دائما حوله… يتفقدنا كما صندوق أحلامه، كان متفائلاً جداً ويردد دائماً: الله شاهدي، الله ناظري، الله معي.

ثقيلة تلك الأيام كانت.. أثقل من الديون، والنزوح مؤلم حقا كمن يقتلع شجرة من جذورها… أمي متشائمة على الدوام ودائما تتوقع الأسوأ..

في كل مرة ننزل فيها إلى كفرنبل نرجع لنجدها عند درج الباب تنتظر وهي تسبح الله وتدعو وتتلطف…

ذات يوم كان القصف شديداً على قريتنا والمعارك على أشدها وكان لزاما علينا أن ننزل إلى القرية كي نجلب باقي أثاث منزلنا، وما تبقى من المواشي فقد تركنا بعضها في القرية أول النزوح على أمل عودتنا، صباحا، قبل أن يسبقنا إليها الجيش ويسلبها أو يحرقها.. فمن يحرق البشر وهم على قيد الحياة يسهل عليه حرق البيوت والأرزاق، كان يوما لا يُنسى؛ يوم خرجنا نحن الأخوة الثلاثة قبل غروب الشمس، وانتظرنا على مشارف القرية حتى خيّم الظلام وهدأ القصف ثم دخلنا القرية…

أخبرنا أحد الثوار بأن الجيش يعدّ العدة لدخول القرية هذه الليلة ولا ينصح أحداً بالدخول، داهمنا الخوف، لكن خوفنا على ممتلكاتنا كان أكبر وقلقنا على عنزاتنا الأربع التي بقيت دون طعام ثلاثة أيام…

استجمعنا قوانا.. شجعنا أنفسنا واتفقنا أن ندخل اثنين فقط دون سيارة ومشيا على الأقدام لسهولة خروجنا من القرية فيما لو دخل الجيش القرية وسيطر عليها، تركنا أبي مع أخي الصغير خارج القرية ودخلت بصحبة أخي الأوسط، وعملا بنصيحة أبي، اخترنا المشي في أطراف القرية.

وبعد جهد قليل وصلنا منزلنا على طرف القرية الغربي، الحارة كانت موحشةً تماماً، لا حركة فيها، ظلام دامس لولا ضوء ولاعة صغير…

اتجهنا إلى حظيرة الأغنام كان لدينا ثلاثة أغنام وأربع عنزات مع صغارهن… هذا كنزنا الوحيد أو بالأحرى كنز أبي، سألني أخي: هل أحضرت معك مفتاح المنزل…

 سؤال فاجأني.. فقد نسينا المفتاح مع أبي خارج القرية، اقتربنا يائسين من باب منزلنا الكبير… فلما تحسسناه بضوء الولاعة فلم نجد الباب أصلا لقد سقط الباب على الأرض من شدة القصف… النوافذ تخلّعت مفاصلها وبعضها طارت من مكانها، وفوهات في الجدران سببتها الشظايا والرصاصات المتفجرة، رائحة البارود تملأ المكان والصمت يخيم على الحارة، بل على القرية بأكملها، ومع اقترابنا من الحظيرة بدأت الأغنام بالثغاء رافقها صوت العنزات وصوت الدجاجات، بل حتى قطط الحارة وكلابها…

صوت القبضة اللاسلكية يشعرنا بالتوتر أكثر، ومع دخولنا الحظيرة اقتربت البهائم منا بصياحها جوعاً وخوفاً، وكأنها تريد أن تخبرنا بالأهوال التي عاشتها، أو ربما تريد عتابنا لأننا تركناها لثلاثة أيام دون طعام أو ماء، وقبل أن نهم بالمغادرة، جن جنون قوات النظام وبدأ القصف العنيف على القرية بأكملها… قذائف وتمشيط لعربات الشيلكا وراجمة صواريخ تمطر صواريخها دفعة واحدة، القصف على القرية من كل الأطراف ومن كل الحواجز المحيطة بنا… التصقنا بجدار الحظيرة… اقتربت منا الأغنام والعنزات… كنا ننتظر أن يهدأ القصف كي نلوذ بالفرار… قال أحد الثوار على أثير القبضة اللاسلكية… الجيش يمهد لدخول القرية… انتبهوا قد يدخل القرية من طرفها الغربي متخذاً من تل القرية مسنداً له، انتظرنا قليلا فلم يهدأ القصف ووجدنا  أنه لا بد لنا من الخروج مع الأغنام جميعها، فإما أن نموت أو نعيش او نصل بأقل الخسائر الممكنة، فالموت أسهل بألف مرة من الوقوع في الأسر، كان الخروج خياراً صعباً والبقاء كذلك… لكننا حزمنا أمرنا بالمغادرة، بعد لحظات انفجر صاروخ عنقودي… بدت السماء وكأنها لونت بالأحمر.. وبعد لحظات سمعنا صوت مفرقعات متفجرة وكأنها ألعاب نارية… صاح المرصد على القبضة، لقد نزل صاروخ عنقودي في الحي الغربي… زاد خوفنا أكتر فيما لو تكرر إطلاق الصواريخ العنقودية… لكن ما زاد من عزيمتنا هو أنه طالما النظام يقصف فهذا يعني أنه لم يدخل القرية بعد… 

خرجنا مسرعين، والقصف يشتد… أصوات آليات وعربات كنا نسمعها عندما يغب صوت القذائف.

 صخب من الأصوات، صوت إطلاق القذائف وانفجارها وصوت ارتطام الشظايا، صوت رشاشات الشيلكا مع صوت نباح الكلاب ومواء القطط، صياح الديكة وعنزاتنا، مع صوت قبضتنا اللاسلكية، لكن صوتا ما يتردد في داخلي هو صوت أبي: الله شاهدي، الله ناظري، الله معي.

كأنها القيامة.. أهوال وأهوال وقذائف تنزل هنا وهناك، وفي غفلة منا سقطتُ مع إحدى العنزات في حفرة يصل عمقها لأكثر من مترين كان الماء يتجمع في قعرها، فيبدو أن هذا الصاروخ قد قطع إحدى خطوط الماء، عاد أخي فايز مسرعاً مد لي يده استطعت الخروج لكن العنزة كانت منهمكة في شرب الماء دون اهتمام لأمرنا.. حاولنا اخراجها فلم نستطيع، قررنا تركها، ومضينا… إلا أن سقوط قذيفة بالقرب منا جعلتنا ننزل إلى الحفرة ونحتمي بها، التصقنا بسفحها، لا مجال للانتظار، لقد قطعنا نصف الطريق، وفجأة هدأ القصف وعم صمت في المكان، وتوقفت مع توقف القصف كل الأصوات، كان الماء قد وصل إلى ركبتينا، وصوت القبضة اللاسلكي يقول: الجيش يدخل القرية من الطرف الجنوبي، زاد اصرارنا، على الخروج، وأحسسنا بأننا مع بعض الوقت والقوة نستطيع المغادرة… رفعنا العنزة فوق أعناقنا ثم تكاتفنا ودفعناها إلى الأعلى وبمساعدة منها استطاعت الصعود، وانضمت للقطيع لرفاقها، استعجلنا المشي، وغيرنا المسير، إحدى الطرق كانت مزروعة بالقنابل العنقودية… أغلبها لم ينفجر، أحد الصواريخ التي ألقتها طائرات النظام، والذي لم ينفجر كان قد بان ظهره وهو متلحف التراب يشبه الفطر الأبيض. كان صاروخا بزعانف، كان ضخما جدا كسمكة… بل كحوت.

بعد نصف ساعة من الهدوء والمشي خارج القرية، وجدنا أبي قد مشى قليلاً يستعجلنا…

قال لنا الرجل الذي تركناه برفقته: لم يتوقف أبوكم عن الصلاة لحظة واحدة… لقد صلى، ودعا لكم كثيراً… 

حمّلنا الأغنام في السيارة ورجعنا إلى كفرنبل، كنت أشعر بأنني قمت بعمل بطولي، وأن والدي فخورٌ بي جداً، وأن مشكلاتنا وخلافاتنا ماهي إلاّ فقاعات تطفو على السطح، أمي كانت بانتظارنا على درج الباب، وقد احمرت عيناها من الدموع، عانقتنا، تحسست إن كان أحدنا مصاباً بأذى، ضمتنا إلى صدرها، اطمأنت إلينا، بعد قليل نظرت إلى أبي العائد إلى الحياة، كان جالساً وحيداً في زاوية الغرفة يبكي بصمت ودون دموع، فجأة أجهشت أمي بالبكاء دونما سبب… لم أستطع حتى اليوم أن أفسر ذلك الموقف… ترى هل ابي تذكر أمه؟! أم أن أمي تذكرت أباها..؟؟ أم أن أبي تضايق لأنه لم يجد أحدا في انتظاره…!! 

الوقت رمضان، الساعة السادسة عطشاً، ذهب أبي بسيارته ليجلب لنا الماء من مناهل كفرنبل، اعتادت المروحيات أن تقصف كفرنبل في شهر رمضان وخاصة وقت الإفطار، فكانت الناس تضطر لمغادرة كفرنبل قبل الإفطار بساعة إلى الأراضي الزراعية ولم يكن للطائرة يوم محدد. في ذلك اليوم تأخر أبي في جلب الماء، انتظرناه طويلا لكنه لم يأت اقترب موعد أذان المغرب، جاءت المروحية قبل الافطار وبقيت في السماء على أهبة التنفيذ، وعندما صاح المؤذن.. الله أكبر الله أكبر… معلناً بدء الإفطار كانت الناس تترقب المروحية التي ستلقي حممها.

خمس دقائق مرت كأنها الدهر… نفذت الطائرة وتصاعد الدخان وانطلق صفير سيارات الإسعاف، وتداخلت الأصوات على القبضة اللاسلكية وأغلب الأصوات تقول بأن المروحي نفذ بالقرب من منهل الماء…

انتظرنا أبي لكنه لم يأت وكعادتها أمي جلست عند درج الباب تبكي، وتضرب كفيها، حاولت أن اطمئن قلبها لكن عبثاً، عيناها كانت ترقبان الطريق الترابية، لكن لا أحد، سفرة الافطار، لم يتقدم إليها أحد، خيم الظلام على المكان… ولكن ما من أحد… مرّت الدقائق كأنها العمر… ضوء سيارة خافت يثقب الظلمة، يقترب أكثر فأكثر، إنه أبي، تراكضنا نحوه، نزل من السيارة ونزلت الفرحة في ديارنا، وبدأ الجوع يعصر أحشاءنا… 

اقترب العيد ومع اقترابه نشب خلاف بيني وبين أبي بشأن ثياب العيد، وتطور الخلاف لسبب تأخري في الزواج، لا أعرف كيف حصل ذلك ولم؟ تماسكت وتجلدت قليلا، نظرت إلى أمي مستعينا، فقالت لأبي: يا حاج محمود خفّ قليلا على ابنك، هذا طبعه، إنه لا يريد أن يتزوج، اتركه يكمل دراسته، إن يحب أن يصبح كاتباً.. صرخ في وجهها: ليذهب إلى الجحيم فالشعر لا يطعم خبزاً، لا يسمن ولا يغني من جوع، إطعام العنزات والسراحة بهن أفضل بألف مرة من مكوثه أمامي كالصنم.

خلافاتي كثيرة كانت مع أبي وتتعمق يوما بعد يوم، حاولت أمي كثيراً أن ترأب الصدع بيننا لكنه كان يتعمق أكثر، صاح أبي قائلا: سيأتي عليك يوم، تجوع وتشقى وتعرى ولن ينفعك شعرك ولن تطعمك قصصك إلا الهواء، ستجد نفسك وحيدا تمضغ حيرتك وتجتر ذكرياتك، ستتزوج رغماً عنك ودونما فرح، وستأكل دون شبع، ستغوص بالماء دونما ارتواء، وعيد بلا ثياب، بلا فرح، بلا نكهة ستتزوج وستعرف معنى أن تكون أب، وستعرف معنى أن تكون بلا أب، لن يكون لك فرع نابت في السماء مالم يكن لك جذز راسخ في الأرض.. لم أستطع أن أنبس ببنت شفة، ضربت باب البيت بقوة، وغادرت المنزل، جلست بعيداً وحلفت ألا أدخل المنزل مادام أبي فيه، بعد ساعة خرج من المنزل ركب السيارة ثم مضى.. وقتها دخلت البيت ربطت يدي ودسست رأسي تحت المخدة… 

ماهي إلا غفلة استيقظت على صوت دوي هائل رجّت الأرض له، وصوت طائرة يثقب الأذان، وينشر الرعب في الأجواء، كانت الطائرة قد قصفت مشفى أورينت في كفرنبل، وتصاعد الدخان وبدأت سيارات الإسعاف بالصفير، ما كان يطمئننا أن أبي لم يكن ليصل كفرنبل بعد، قالت أمي لقد ذهب أبوكم ليشتري حوائج العيد وأنتم الثلاثة قابعون هنا أمامي… ماذا لو أن أباكم قد أصابه مكروه.. لم نكن نعبأ بكلامها، وكنا على يقين بأن أبي سيأتي بعد قليل بضوء سيارته الخافت يشق ظلمة الليل، ينزل من السيارة يتراكض أخوتي وأحفاده إليه يحملون الحلوى والثياب الجديدة فرحين.. كان همي كله هو أنني سأعتذر منه في صباح العيد، أو حين يعود، لن أخاصمه بعد اليوم، سأبلع لساني، بل سأضع حصوة تحت لساني.

 تأخر الوقت… لم يأت أبي، وكعادتها جلست أمي عند درج الباب تدعو وتقلب كفيها… بعد قليل من بعيد ضوء خافت بدا بين الأشجار.. كضوء خافت في آخر النفق، سيارة تمشي ببطء شديد اقتربت… نزل منها شخص شاحب الوجه قائلاً: الحاج محمود استشهد بضربة الطائرة.

رحل أبي… ومع مرور الأيام وجدتني أهجر الكتابة، وأُخرج الغنمات إلى المرعى، وألبس جلباب أبي.. تزوجت دونما فرح، وأكلت دون شبع، وشربت دون ارتواء… وفي ليلة شتوية، مظلمة وباردة، وبعد سنة على رحيل أبي، في ذات المشفى وفي ذات اليوم، بدّدت صرخة ولدي الأول وحشة المكان، فصرخت قائلاً: لقد عاد محمود.. لقد عاد الحاج محمود، لقد رجع أبي.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *