عند الحديث عن قضية صعبة وشائكة مثل قضية النساء، تكون فيه المقاربات متعددة، وأحياناً متعاكسة، في ظل وجود مرجعيات متعددة لهذه القضية، فالعامل الديني، والموروث الثقافي المجتمعي، وأيضاً القوانين المنبثقة عن هذين العاملين، تشكل جملة العوامل هذه، قاعدة ثابتة لمعارضة أي توجه مضاد للواقع السائد، وبالتالي تصبح محاولة التغيير هو كالنحت في الصخر، أو الدخول في صراعات ومتاهات يصعب على الأفراد أو الجمعيات والمنظمات مواجهتها، وهذا ما يُصعب من مهمتها الصعبة أساساً.
تصالح القانون مع المجتمع في قبول الواقع هو أبرز المعوقات التي تواجه الناشطين، وكذلك المنظمات في محاولاتهم إحداث التغيير، وفي كثير من الأحيان تتم مواجهتهم بأن هذه قضية ثانوية مقابل قضايا أكثر أهمية وأكثر إلحاحاً، ولعل الحديث عن هذه الجزئية تستحق النقاش الكثير، وخاصة في قضية المفاضلة الوهمية التي يخلقها البعض بين الوصول للديمقراطية ومناقشة قضايا النساء.
برأيي أن الفصل غير ممكن فعلياً بين القضيتين الجوهريتين، فليس من ديمقراطية فعلية دون وصول النساء لحقوقهم الأساسية في بلد ديمقراطي لا يميز بين مواطنيه على أساس الجنس، والعرق واللون والدين والطائفة، وعليه فإن قضية النساء هي من صلب العملية الديمقراطية المراد الوصول إليها، وليست قضية معزولة، أو منافسة لها.
تشكل المرأة نسبة كبيرة عددياً في كل مجتمع، وهي جزء أساسي في بنائه، كما الرجل تماماً، وأي تعطيل لدورها في المجتمع هو محاولة لكبح جماح التطور، وهذه هي القضية الرئيسية التي ينبغي الانطلاق منها، وأي محاولة لتكرار نماذج أخرى بالاستناد لتجارب تاريخية هي محاولة للعودة للوراء، والاستنجاد بالتاريخ في محاولة الهروب من الحاضر، والتهرب من مواجهة المستقبل عن طريق “التقدم” للخلف، فليس من الواقعية أن يعيش مجتمع ما في دولة ما بحالة عزلة تامة عن كل التغييرات في العالم، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال ألا يكون لكل مجتمع خصوصيته، لكن إيجاد توازن بين الحالتين مطلوب للاستمرار في عملية التطور التي يعيشها الناس.
في سوريا يعاني النشطاء المعاناة ذاتها، فالبلد الذي يعيش في حرب طاحنة منذ عام 2011 وسبات من نواحي كثيرة منذ عشرات السنين، لا يتحمس الكثيرون للبحث في قضايا النساء كأولوية، ويعتبرونها ترفاً ضمن كتلة القضايا الملحة التي تواجه السوريين في الداخل، وفي بلدان اللجوء، وهذا الجدال يكاد يكون ملازماً لكل محاولات طرح هذه القضية.
لا بل يواجه النشطاء وكذلك المنظمات المدافعة عن حقوق النساء اتهامات باتباع سياسة المانحين، وشغل السوريين عن قضايا أكثر أهمية، وبكونهم جزءاً من أجندات خارجية تحاول تفكيك المجتمع السوري، ومحاولة إبعاده عن قيمه التي يتميز بها، وهو ما يشكل عامل تشويش على عدالة هذه القضية.
يبدو أن هؤلاء راضين تماماً عن الحالة الاجتماعية الراهنة، وعلى الرغم من عدم تصريحهم بها، إلا أن مقاومة أي محاولة للتغيير، وربطهم لها بمؤامرات تحاك في غرف مظلمة، هو توجه واضح لإبقاء الواقع كما هو الآن، والذي نعيشه في منطقتنا منذ قرون، وهو بالذات ما يحذرون منه في معرض حديثهم عن تخوفاتهم من محاولات تغيير الواقع الراهن، فالذي يخافون من حدوثه، هو ما يعيشونه فعلاً منذ قرون، وهو ذاته الذي يحاولون التمسك به، وهذه هي المفارقة المعقدة التي ينبغي تفكيكها لهم.
أعتقد أن الطريقة المثلى للتغلب على الخوف؛ من الماثل في أذهان الرافضين للتغيير المجتمعي يكمن في الشروع بالتغيير، أي مواجهة المشكلة دون مواربة، فالإنسان، بطبيعته، عدو ما يجهله، والخوف المبالغ به على القيم المجتمعية التي تميز المجتمع السوري هو عائق لتقدمه، وعلى دعاة هذا الفكر أن يكونوا أكثر ثقة بقيمهم، وأنها عصيّة على الذوبان عندما تصبح جزءاً من عملية التطور الحضاري.
الجرائم بحق النساء تزداد باضطراد، فالحركات المطالبة بحقوق النساء في دول المنطقة أسوة بالدول المتقدمة، في تزايد مستمر، فالبون بينها أصبح شاسعاً، ومنطق التاريخ يعلمنا أن لا نجاح في التقوقع، وأن المرونة هي التي تفيد في هكذا حالات، وكذلك فإن التغيير الهادئ السلس، والذي يحافظ على أساسيات القيم هي ما تحميها، وليست مواجهة التغيير بالانغلاق.
يبدو المجتمع السوري متميزاً عن غيره من مجتمعات المنطقة في كونه عايش حضارات متعددة عبر مر التاريخ، ولم يفقد سماته الخاصة به عبر قرون، وبالتالي فإن انخراطه في سيرورة التاريخ هو ما يعطيه فرصة البقاء، والحفاظ عليه من الاندثار الذي واجه الكثير من الثقافات التي فشلت في مواكبة عصورها، وأصبحت أثراً بعد عين، وعليه فإن معالجة قضايا النساء في سوريا يمكن أن تكون مدخلاً مهماً في حل الأزمة المستمرة منذ سنوات، وطريقاً آمناً للوصول إلى دولة ديمقراطية تعددية تقبل الاختلاف، وتسعى للاستفادة من طاقات جميع مواطنيه.