تصاعد الدّخان السّاخن فجأة في وجه الصّبي وذاب الخيط، لماذا؟ لأنّ بنان ما زالت مصرّة أنّ نوع الفحم هو المشكلة، فغيّرته وكانت محقّة، الآن حلّ اللغز، لكنّ المصيبة أكبر، فالحجر العالق في المدخنة سقط ولأن هيكل المدفأة متهالك متآكل، كان الحجر القشة التي قصمت ظهر البعير، ملأ الدّخان غرفة المعيشة، والنّار تتراقص في المدفأة والعائلة تنتظر إخماد النار بعد أن فتحت الأبواب والنّوافذ، لكن الفحم جيّد هذه المرّة!

                                  

الفصل الأول: بداية معتادة: 

كانون الثاني 

٥:٣٠ فجراً

المنزل الأول:

    امرأة ستّينيّة عمياء جافاها النّوم، كان دأبها سهر الليل و نوم النّهار، ولكي تطرد المخاوف عنها، كانت دائمة الكلام بصوت جهوريّ عالٍ، وهي الّتي لا ينطلق لسانها نهاراً فبالكاد تستطيع التعبير عن احتياجاتها، لقد أخبر الطّبيب والديها بعد ولادتها أنها قد لا تعيش طويلاً، و من المستحيل أن تعمر، أمّا الآن مع صوت الأذان بدأ النّعاس يتسلل إلى جفونها فتصرخ: 

  • يا الله أريد أن أنام!

فيردّ أخوها: نامي يا أختي نامي!

  • لا أستطيع، فالفراش مليء بالماء.
  • ليس ماء، إنّه باردٌ فقط، نامي الآن.

وينهض ليذهب إلى الجامع بعد أن أيقظ أهل بيته، ما إن فتح الباب حتى هجمت ريح صرّ، فسارع بإغلاق الباب حتى لا يدخل البرد إلى الدّار.

ينادي وسط الحي: الصّلاة خير من النّوم.

فتُفتحُ أبواب منازل الحي الخمسة، لتخرج الرّجال فلا تسمع إلّا الأبواب تُفتح وتُوصد مع سعال جاف يصدح في الأفق، فيقول أبو زياد: 

  • أهي كورونا يا أبا عمر؟
  • أليس عيباً، من هي الكورونا!

بعد أداء الصلاة تعود الرّجال إلى دورهم، منهم من يستطيع إكمال نومه، ومنهم من يجافيه النّوم، ولكنّ الجميع يرقد في الفراش منتظرين إشراق الشّمس، لكنّ الغيوم السّوداء خيّبت الآمال، فكان ولا بدّ من إشعال المدافئ.

الفصل الثاني: كرم الشّتاء نارها

المنزل الأول:

إنّها التاسعة صباحاً، نهضت من فراشها واتّجهت نحو علبة الخياطة، فتاة عشرينيّة، حازت على الشّهادة الجامعيّة، ثمّ لازمت المنزل بسبب البطالة، أخذت ثوباً قديماً وقرّرت أن تجرب حظّها في الخياطة بعد أن تعلّمت المبادئ الأساسية، وهي تجمع وتقسّم وتنعم النّظر بالقطعة الّتي أمامها، يقف بائع الخضروات وسط الحي فيعلم أهل الحي أن التّحايل بات مستحيلاً وبدأ النّهار حقاً.

حان الآن موعد إشعال المدفأة الكابوس الأكبر، وكما توقّعت العائلة بعد المحاولات الجادة، والتّنظير والتّجريب لم تشتعل النّار!  

لا أعلم عزيزي القارئ في أيّ عام تقرأ هذه الصّفحات   لكنني سأنقل لك واقع التّدفئة اليوم ، في جعبتنا الكثير من الخيارات لكن اختيار هذا العام هو الفحم في المنزل الأول، كانت المدفأة مخصصة للفحم لكن فلتعرف أنّ رفاهية التدفئة مدفوعة مسبقاً  لن أقلب لك الصفحات درس كيمياء لكن مع خطورة الفحم كانت معادلة الاشتعال تحتاج إلى ميزان أكبر من ميزان الكيمياء ،حيث يوضع حول الفحم الكثير من المساعدات، إذ يُرصف حولها أي هيكل يحتوي البلاستك، وتدعيماً يوضع قرص بيرين، وإذا لزم الأمر أضيف الكرتون أو كيس إسمنت، و كان الخلاف دائماً ماذا يوضع فوق ماذا وكيفية الترتيب، فبنفس المكونات تنجح الوصفة حيناً وتفشل أحياناً كثيرة، ولحلّ هذه المشكلة قرّر أهل المنزل وضع المدخنة في السّقف ، وبدأت التّحليلات :

  • لا بدّ أنّ المدخنة تحتاج إلى تنظيف.
  • لا أعتقد، أظنّ أن نوع الفحم رديء.

وبعد المجادلات والمناقشات، ها هو أحمد على السّطح يحاول تنظيف المدخنة، ألا تتساءل كيف؟ 

الحاجة أمّ الاختراع، حجر صغير يربط بخيط وينزّل رويداً رويداً، لكن ماذا يحدث؟ 

تصاعد الدّخان السّاخن فجأة في وجه الصّبي وذاب الخيط، لماذا؟ لأنّ بنان ما زالت مصرّة أنّ نوع الفحم هو المشكلة، فغيّرته وكانت محقّة، الآن حلّ اللغز، لكنّ المصيبة أكبر، فالحجر العالق في المدخنة سقط ولأن هيكل المدفأة متهالك متآكل، كان الحجر القشة التي قصمت ظهر البعير، ملأ الدّخان غرفة المعيشة، والنّار تتراقص في المدفأة والعائلة تنتظر إخماد النار بعد أن فتحت الأبواب والنّوافذ، لكن الفحم جيّد هذه المرّة!

في المنزل الثّاني:

اليوم عيد ، لأنّ وفاء اشترت سجادة جديدة ، وأخيراً سترمي تلك السجادة البالية، و بدأت الجلبة نتيجة أعمال التنظيف و الترتيب وتمّ الأمر، ما عليهم سوى إعادة المدفأة إلى موضعها، بداية عندما أخرجوا المدفأة سدّ خالد المدخنة بمجموعة من الأكياس تجنّباً لحدوث الكوارث، والآن عند إعادة المدفأة و بحركة خاطفة دون تفكير بالعواقب سحب الأكياس، فإذا بالألوان الزاهية و النقوش المزخرفة تُطمَس مرّة واحدة، وقف الجميع مدهوشين دون استيعاب ما حدث، ثم علت الأصوات، و أغلقت القضية بإعادة السجادة التي ظنوا للحظات أنهم ودعوها إلى الأبد.

في المنزل الثالث:

يشرب زوجان القهوة فيسأل الزوج:

  • اليوم دور أهلي أم أهلك؟
  • دور أهلي اليوم.

هكذا يتقيان برد الشتاء يوم عند أهله ويوم عند أهلها فحملهما كما يقولون خفيف.

في المنزل الرابع: 

يتشاور حسن وإسراء 

  • هل نشعل المدفأة الآن أم نؤجلها حتى المساء؟
  • لا، اشعليها الآن أخشى على الصغار من البرد، عليهم أن يدرسوا.
  • أرآك أحد؟
  • لا، انتظرت حتى عاد الجميع إلى بيوتهم بعد الصلاة.
  • أخشى أن تواجهني نساء الحي بهذا كلّ يوم.
  • ولماذا؟ أنسرق نحن؟
  • معاذ الله، ولكن عندما أتذكر أنّك تجمع مخلّفات الفحم الّتى رُميت بعد إشعالها أشعر بالحرقة.
  • لا حول ولا قوة إلا بالله، إنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

في المنزل الخامس:

تجلس أم كريم وزوجها بعد أن زوجا أولادهما أمام النّار، وقد فرّطت البيرين ووضعته في دلو، وكل فترة ترمي في النار ملعقة أو اثنتين.

الفصل الثالث: الشمس بالمجان:

الثّانية عشرة ظهراً

انقشع الغيم و أرسلت الشّمس أشعتها تطرق الأبواب و النّوافذ معلنةً رفع الحظر، فخرج الأولاد يركضون ويلعبون، و أخذت النساء تتوافد بعد أن اخترن أفضل فسحة تصلها الشمس بحيث تكون الشاحنة الكبيرة المركونة أمام بيت أبي زياد خلفهن تحجب عنهن الشارع،  وبدأت أطول و أوثق نشرة أخبار، من حديث لآخر و من موضوع لغيره، لكنّ إحداهن سرقها الشرود من بين الحاضرين، فكّرت قليلاً بمشروع الخياطة الذي فشل، ثم عادت بذاكرتها أبعد من ذلك، إلى محاولات التوظيف الفاشلة، و مشاريعها المؤجلة، حاولت أن تهرب من أفكارها و ألا تستسلم لحزنها، حاولت شغل نفسها بالنقاش مع الجالسات، ولكن لم تنجح في استيعاب ما قيل، لسبب ما بقيت أسئلتها عالقة في حنجرتها: ما القصة؟ ولماذا؟ وأين؟ 

أزعجتها الشمس فتوارت إلى الظّل، عندها أقبلت بنان: كنت أتساءل ما هذا السواد هذه أنت؟

لتنتفض هذه المرة وينطلق لسانها لتردّ على أختها وكأنها تجيب عن أسئلة مكثت في صدرها دهراً:

  • إن ما ترينه من سواد لا يمثلني، لعلّه أثر وقوفي في الظل هنيهة.

نهضت واتجهت إلى البيت تحدث نفسها: لا يحقّ لأحدٍ أن يحكم عليّ بالانطفاء، فداخلي متوقد حتى لو مكثت في الظّل مئة عام.

الفصل الرابع: التدفئة مقابل الغذاء:

السابعة ليلاً:

 فتاة في العاشرة من عمرها ترمق الحاضرين بنظرات يتطاير منها الشرر، تحاول أن تتغاضى عن الوعد الذي أُخلف، إذ كان من المقرر أن يكون الغداء (محشي)، لكن لسبب ما فوجئت أن حساء العدس هو الطبق الرئيسي والوحيد، لتنتفض أخيراً وتسأل: 

  • ماذا حلّ بطبخة المحشي؟

ليجيب الحاضرون بجملة حُفِظت من كثرت تداولها:

  • التدفئة مقابل الغذاء.

وأُطفِئت الأنوار ورقد سكان الحي، ولم تبق إلا ريح الشتاء تصفر في الشوارع والممرات.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *