على ضوء القمر ليلة الخامس عشر، وفي قرية نائية كلّ النأي عمّا يسمّونه الحضارة، قريبة كلّ القرب من الفطرة الأصيلة والأخلاق الحميدة وبالتحديد تحت عريشة العنب الأبيض المسمّى ( أصابع زينب) والّتي تدلّت عناقيد منها كمصابيح عُلّقت في سقف مزركش، حيث إذا استلقيت رأيتها ورأيت بعض النجوم تخترق أوراقها، ونسمة عليلةٌ آتيةٌ من المغرب قبيل العشاء وقد حملت هذه النسمة معها شيئا من أزهار الزيزفون فاستحالت تلك النسمات شيئا من خمرٍ مزجت برائع الطيب، وهناك على مرمى حجر على شاطئ العريشة القبليّ قام التنّور بهيّا فاتحا فاه وقد يخرج منه حينا بعض الشرر، وقد أخذ إبريق الشاي المرميّ داخله يصفر إيذانا باستوائه ونضجه، وتنبعث منه رائحة حبّات الهال والقرفة فتأتي بها الرياح الجنوبيّة حينا لتداعب شعورك وتذهب بها الشماليّة أحايين لتمنحك لذّة الانتظار ولهفة الترقّب، يقوم والدي ذو الثمانين عاما ونيّفا متّكئا على عكّازته المصنوعة من غضن رمّانة جفّت، وقد وضع جمدانته على رأسه وعلاها عقاله.
(المرعز) المصنوع خصّيصا له في حماة، لم يقم أحد منّا وقد كنّا جانبه أحد عشر كوكبا ليأتي بالإبريق عنه؛ لأنّنا نعرف عادته منذ عشرات السنين، فهو لا يسمح لكائن كان أن يصبّ الشاي وهو موجود فصبّها_ كما يقول _فنّ وذوق. ابتدأت تلك السهرة – جُعلت فداء لتلك السهرات – بسؤال الأخ الأكبر عن الموسم وكيف هو هذا العام وهل هي سنة خير أم سنة محل وتوالت الأحاديث تباعا حيث لم أعد أذكر التسلسل المنطقيّ الّذي قاد الحديث من الموسم والزروع إلى امرأة أبي صالح الّتي طلّقت ابنتها من زوجها بحجّة إسكانها في بيت غمس (هو البيت الطينيّ) وبأنّه لم يحضر لها أكثر من عشرين فرشة صوف؛ في حين أنّ أختها لم تدخل بيت زوجها إلّا بأربعين فرشة صوف ومئتي مخدّة قشّ (بفرد شكل)!!!!
ولم يقطع تفكيري لأعرف كيف وصل الحديث إلى هنا إلّا والدي وهو يقول تف تف وهو ممسك بمشرب دخّانه اللفّ بين أصابعه، ويدكّ سيجارته من الدخّان العربيّ وأخذ يقول: الله يلعن هالجيل لعنة لا تحول ولا تزول، وتف على هيك بيوت بتتحكم فيها نسوانها.
وهنا بدأ أخي الأوسط الأستاذ كامل ذو الأربعين عاما بحديثه المناقض لحديث أبي:
للمرأة حقوق كما للرجل حقوق، ولها القرار في هكذا أمور كما للرجل قرار في أخرى، فقال أبي بلهجته الساخرة المعروفة: حكى بدري وانشرح صدري وشو بالله هالحقوق يا أستاذ كامل؟!
ومنذ متى كانت نساؤنا تتحكًم في أمور البيوت أما سمعت قول سيّدي:
لا بارك الله في قوم تحكمهم امرأة؟!
فقام من آخرنا أخي الشيخ محمود معلّقا:
لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة، هكذا هو الحديث ليس كما قلت.
فردّ أبي بدون أن ينظر إليه: دي سكّر عالتالي، ما بتعرف يا حضرة الشيخ من آداب الحديث أنّه ما تتدخّل في حديث الأخرين بدون استئذان، فهمّ أخي الشيخ بالردّ على أبي إلّا أنّ نظرة منه كانت كافية بإسكاته لآخر السهرة.
وأردف أبي قائلا: بعدين يا كامل أنا أعرف أنّ لكلّ امرئ من اسمه نصيب إلّا أنت، ويا سبحان الله أحاديثك كلها ناقصة مثلك.
وهنا قطع هذا الجوّ المشحون صافرات هي غريبة كلّ الغرابة عن جوّ قريتنا الهادئة، ودخلت إلى فناء الدار أربع سيّارات للمخابرات، وانتشر جنودهم حولنا وجاء الضابط يقول: كامل خالد المعافير مين؟
فتقدّم أخي كامل إليهم؛ فما كان منهم إلّا أن عصبوا عينيه، ووضعوه في حوض سيّارتهم، وأحاط به اثنان من أضخمهم جثّة، وذهبوا به لا ندري إلى أين…
لم تكن قريتنا هي الأولى الّتي عكّر صفوها صافرات رعبهم، بل كانت إحداهنّ، وأصبح الناس يأتون ليواسوا أبي في مصيبته وبعضهم أتى يتشفّى به لغيرتهم من ذلك الرجل الّذي أمضى عمره في البناء، وخرّج من تحت يديه المتشقّقتين سبعة من الأطبّاء، ومن بقي منهم درس الشريعة والهندسة والتربية وصاروا مثالا يضرب وقدوة تُحتذى، ولكنّ أبي أمام الجميع: المواسين منهم والمتشفّين كان ثابت التقاسيم متجهّم القسمات قد لمعت ذقنه المحلوقة في صباح اليوم وفاحت منه رائحة الريڤ دور وهو يقول مهما قيل له: “الحمد لله”.
ولكن بيننا كان أبي غير ذاك، كان يقول: هذا الكامل من يوم مجيئه إلى هذه الدنيا لم تستطع كلّ قابلات القرية توليده حتّى اضطرّنا للذهاب إلى المدينة، وعندما بدأ الدراسة عجز الأساتذة تعليمه حتّى أبسط الحاجات ولم يستطع تليين رأسه العنيد حتّى الشيخ مكّي وسوطه، وبعد أن صار في الجامعة وزوّجناه قلنا يعقِل فإذا بحسابنا ينقلب علينا فإذا به يطيش ويجادل أساتذته ومدراءه حتّى قبّلنا ألف يد ليكمل تعليمه، وفي عمله طرد من كلّ مدرسة دخلها لتعنّته وجموده، الرجل يجب أن يقسو في موضع القسوة ويلين في موضع اللين كما قال أبو فراس.
وَوَضْعُ النَّدَى في مَوضِع السيفِ بالعُلا
مُضِرّ كوضعِ السيفِ في مَوضِع الندى
فإذا بالشيخ محمود أخي يقول هذا البيت للمتنبّي وليس لأبي فراس.
أووووووف قال أبي بتذمّر
أنا أشير إلى القمر والشيخ ينظر إلى إصبعي.
أما رأيتم المواضيع الّتي يثيرها أمامنا ونحن نسكته دائما: مرّة عن الحرّيّة ومرّة عن التعدّديّة ومرّة عن الظلم، وأنا أقول له يا ولدي كلامك سيطيح بك كلامك سيقتلك كلامك سينهيك وهو لا حياة لمن تنادي.
كان حين يغلبني في النقاشات ويدمغني بحججه _ ودائما كان يفعل _ كان حينها يقول:
إنّها صرخة في واد
أو نفخة في رماد
إن ذهبت اليوم مع الريح
فغدا ستذهب بالأوتاد
كان على حقّ وأعرف _ بدون أن أعرف سبب اعتقاله _ أنه على حقّ ولكن، ولكن، الحقّ هذا شيء نسبيّ الحقّ لا يقال دائما الحقّ يتطلّب مجتمعا محقّا لا أفراد محقّين، آهٍ يا ولدي صرختك ذهبت بك وذهبت بي صرختك أحالتنا رمادا يا ولدي توالت الأيّام وأنا أرقب ذلك المشهد من بعيد، ذلك المشهد متمثّلا بحصن عظيم مبنيّ بحجارة يمسك بعضها بعضا فأزيلت إحدى دعائمه فكان هذا الحصن يتداعى شيئا فشيئا، كان ذلك السدّ والدي وكانت تلك الدعامة أخي كامل، ما زلت في مشهدي في خيالي حتّى أيقظني انهيار ذلك السدّ المتداعي أيقظني صوت أمّي وهي تصيح عند صلاة الفجر بصوت يقطّع القلوب، أسرعت إليها فإذا بها قد ارتمت على كتف والدي وقد مات متّكئا على وسادته وأمامه مصحفه، كانت والدتي كما كانت دائما: تمسح على شعر ذلك الثمانينيّ الفضّيّ ونزلت دموعها على عينيه فبكيا معا، وبكيت أنا وبكى إخوتي وكلّ من يعرفنا، ظللت أبغض كاملا أخي وأعدّه هو المسؤول عن موت والدي ووالدتي بعده بعدّة أشهر، ظللت أبغضه إلى أن وجدنا في أحد المساءات في فناء المنزل كيسا فيه جثّة مشوّهة لم تظهر معالمها ومعها ورقة صحيفة قد كتب فيها مقال بعنوان: إلى متى
وظرف فيه رسالة تقول: مهما نأت القرى في الأرض أو تحتها، في السماء أو فوقها، فنحن لا ينأى عنّا شيء.
جاءت أمّ خالد زوجة أخي تنظر إلى الكيس من بعيد مرتجفة القلب مذعورة الجوارح فصاحت من بعيد: “كامل”
لا أعرف كيف عرفته فكامل الّذي أعرفه ضخم الجثّة عظيم الشاربين، وهذا الجسد المسجّى تحت شجرة الرمّان نحيل هزيل، ولكن هي عرفت حبيبها وخلّها من رقعة على قميصه طرّزت عليها أوّل حرف من اسمها داخل وردة قد ملئت دما، أطفاله كانوا قد تحلّقوا حوله لا يعرفون أباهم كما لم يعرفه إخوته، ولكن كلّنا بكينا حتّى العصافير فوق الشجرات بقيت صامتة هناك لا تزقزق ولا تشدو، هبّت ريح الدبور فحملت معها ذكريات ذلك اليوم:
زيزفون
هال وحطب
عنب ونجوم
ورجل يصيح
كامل خالد المعافير
كان ذلك الرجل شيخ المسجد أخي طاهر ينعى وفاته لأهل القرية
الشهيد كامل خالد المعافير أبو خالد
شيّع الشهيد كما شيّع الآلاف في ذلك اليوم
وكانت دماؤه حقّا صرخة في واد
ولكن هذه المرّة لم تذهب دماؤه مع الريح، هذه المرّة كان المجتمع كلّه محقّا، وجد المجتمع حقّه بهذه الدماء الّتي أورَت نار الثأر والحقّ وأجّجتها في الصدور
هذه النار لن تنطفىء أبدا؛ كما أراها اليوم في عيون المقاتلين حولي وهم ممسكون بأزنِدة بنادقهم، ومرتدون لجعبهم وهم يقولون أبدا كترنيمة خالدة:
غدا ستذهب بالأوتاد يا أبا خالد