في تلك المدينة الحجريّة المسوَّدة قامت عدّة دوّارات على طرقاتها الرئيسيّة، وكان كلّ واحد من هذه الدوّارات يحمل عدّة رؤوس قد عُلّقت بعد أن سُرِقت من أصحابِها بحجّة أو بأخرى، كانت مدينة من الحجر يجوبها المرء ليلا دون أن يأمَلَ بطلوع الفجر. في هذه المدينة يستيقظ الناس على أوراق ملصوقة على أبواب محالّها وجُدران أزقّتها وأبواب مساجدها ومنازلها (لألّا يبقى لأحد عذر فيدّعي عدم وصول هذه الأوراق إليه)، كانت هذه الأوراق بداية _وبُعَيدَ سيطرتهم على المدينة _ عبارة عن بيانات تصدرها (الجماعة) للتعريف بنفسها وبطريقها المسلوك ومنهاجها المطروق. وكانت هذه البيانات تحمل عناوين تباين مباينة تامّة ما كان مشاهدا وملاحظا _بالتأكيد_ وبشكل خاصّ تلك البيانات الّتي كانت تحمل عناوين:
من نحن؟!
هذه طريقنا وهذا منهجنا….
هذا تاريخنا…
أذكر جدّا وقد نُسخ ذلك البيان المعنوَن ب (من نحن ؟!) في ذاكرتي جيّدا حتّى حفظته من كثرة ترداده
يقولون:
(نحن جماعة من الأخوة المعروفين من قبل الجميع أهدافنا معروفة، أسماؤنا لدى الجميع، والجميع يعرفون جماعتنا العريقة وآثارها البهيّة على صفحة التاريخ، جئنا لأجل التحرير والتنوير، وها نحن ذا لا نخفى على أحد)
وإن شئت الدقّة_ يا سيّدي الكريم _فإنّ هذا البيان لا صحّة لشيء فيه ولا حتّى كلمة، إلّا اللهمّ كلمة ( جماعة ) وحتّى هذه الكلمة غير صحيحة _إن شئت تحرّي الصواب_ فإنّ كلمة ( جماعة ) تبعث في نفس متلقّيها شيئا من التناغم والانسجام، وقد يرسم المرء صورة في ذهنه لعدّة عناصر يجمعها رابط معيّن نوعا ما، إلّا أنّ هذه المجموعة لا يجمع بينها شيء أبدا، لا ندري كيف كانوا يتواصلون وقد كان كلّ فرد من هذه الجماعة يتكلّم لغة خاصّة به، ويرى رأيا مخالفا لرأي الآخر، حتّى إنّ لباسهم لم يكن موحّدا بحيث أنّك صرت تحسب الحساب لكلّ متسوّل في السوق أن يكون أحدهم.
هذا بالنسبة لكلمة (جماعة) في البيان، والّذي يمكن أن يكون فيه شيء من الصحّة، أمّا باقي البيان فكلّه مجرّد كلمات مختلقة كاذبة.
فمن هؤلاء الجميع الّذين يعرفونهم؟!
وما هي هذه الأهداف المعروفة؟
لم يكن أحد من أهل تلك المدينة يعرفهم ككلّ، ولا حتّى يعرف شخصا منهم حتّى أنّه وبعد عدّة أشهر من هبوطهم هذه المدينة أخد الناس يتساءلون هل هؤلاء بشر؟!
وكان معهم الحقّ طبعا في هذا التساؤل، لأنّه لم يُرَ وجه أحد منهم على وجه الحقيقة، بل قد رُؤِيت فقط أحداقهم الحمر من وراء أقنعتهم السود وشعورهم المتدليّة على ظهورهم، كانوا لا يتكلّمون مع الناس، بل يكتبون أوامرهم على أوراق والناس تأتمر وأيّ مخالف، يكون لأهله الحقّ في السؤال عن مقتله بعد أن يروا رأسه على أحد الدوّارات، كانت هذه الجماعة تتبع نظاما في التسمية هو نظام أرقام وأحرف فمثلا كان أحدهم يسمّى (أ ب ٢٣)
أو ربّما (س ع ٢٥) والشيء اللافت للنظر أنّه لا يوجد في أيّ اسم _ إن صحّت تسمية هذا الهراء بالاسم_ رقم زوجيّ، أو تتالي حرفي الحاء والراء فمثلا لا يمكنك أن ترى اسم (حر ١٠)، بل بإمكانك أن ترى (ع ب د ١١).
( ج ر م ١٧) وهكذا، وأتوقّع حين قالوا في بيانهم ( أسماؤنا لدى الجميع) لم يكذبوا لأنّ كلّ واحد منهم كان يضع على عضده الأيسر لوحة نحاسيّة تحمل اسمه _ رقمه عفوا _ وربّما أخفى هذه اللوحة حينا لمصلحة الجماعة كما يتعذّرون بهذا العذر دائما إن لم يجدوا أجوبة يقدّمونها للناس، أذكر مرّة وقد مشيت في السوق وكان جارنا يبيع السوس في شهر رمضان ويصيح ملء صوته سوس ١٥ كيس سوس ١٥ وفجأة جاءت سيّارة (المؤدّبين) وأخذت الرجل وجاؤوا بعد قليل لتعليق رأسه على الدوّار، وكانت الجريمة واضحة جدّا وقد كتبت على ورقة فوق رأسه : الاستهزاء بالأخ س و س ١٥
الحكم: أخذ الرأس
آثارهم البهيّة الّتي يتغنّون بها في بيانهم الشهير (من نحن) معروفة لدى الجميع حقّا، فقد طلوا المدينة كلّها بلون واحد حتّى شوارعها وشجرها فما عدت تميّز شيئا، أغلقوا جميع المدارس ودور السينما ومعاهد الرسم والموسيقى بحجّة أنّها (مضيعة للوقت وهدر للطاقات). وألزموا الناس في أوقات فراغهم بحفظ كتبهم ورقة ورقة، وإن تعجب فحقّ لك أن تعجب، فقد كان لديهم كتب كثيرة لا تحصى ولا تعدّ، وكلّ كتاب ضدّ أخيه، بل كلّ صفحة نقيضة أختها، وكان عليك أن تتبع قاعدة في حفظها تهوّن عليك: ناقض نفسك تنج.
هذا بالنسبة لبياناتهم الّتي تحملها هذه العناوين التعريفيّة، أمّا البيانات الأخرى فقد كانت شديدة الوضوح دقيقة اللهجة قاسية المعاني.
كانت قاسية عابسة فتحسّ أنّ هذه البيانات تصرخ في وجهك صراخا، كانت كلّها تأتي بقالب واحد:
أعلى البيان إلى اليمين ثلاثة أسطر فوق بعضها أكبرها آخرها وأصغرها أوّلها _ على خلاف العادة والصواب _
الجماعة
مدينة الفضل
ديوان المسموح والممنوع
أمّا منتصف الورقة وأعلاها كتب (أمر) بخطّ الكوفة وبحجم كبير.
وأسفل الورقة إلى اليسار كتب اسم زعيم الجماعة وختمه أسفل منه (ن و1) كان ختمه عبارة عن حرف نون كبير وداخله حرف الواو، ويخترقهما رقم واحد على هيئة سيف من أعلاهما فيغمره بالحبر الأحمر، ثمً يختم به على الورقة فيسيل بعض حبر من آخر السيف على طرف الورقة، حتّى أنّك تظنّ أنه قد غُمِس بدم وسال على تلك الورقة الآمرة.
وما بين هذا القالب الثابت دائما للبيانات، كانت الأوامر تتوالى بالمسموح والممنوع وجدول اليوم والأسبوع وخطط الشهر والعام وبتنبيهات وإنذارات، كان أكثر شيء اشتُهِر في مدينتنا المطابع، حتّى أنّ كل مطابع المدينة لم تستطع تحمّل أعباء طباعة البيانات الورقيّة ولصقها، فأخذوا يمضون ليلهم ونهارهم في المطابع لينتهوا من طباعة هذه البيانات، كانت تلك البيانات هي الّتي تسيّر شؤوننا في مدينة (الفضل) كما سمّوها، فواحدنا لا يستطيع أن يخرج من بيته أبدا حتّى يقرأ كلّ البيانات ويفهمها فهما لا لبس فيه ولا مراء.
كان هذا الورق هو أكثر موضوع تدار حوله النقاشات في مجالسنا.
هل رأيت أوراق اليوم؟!
ما أهمّ شيء في هذا الورق؟
ماذا منعوا؟!
متى موعد النوم اليوم ومتى موعد الاستيقاظ غدا؟!
وأسئلة مثيرة كثيرة تطرح بخصوص هذا العرش الورقيّ الّذي أحنى رقابنا وأخضعنا، لم يكن في هذه الجلسة غير أخي الأكبر (محمّد) لا يشارك معنا، كان يجلس وحيدا في الزاوية يستمع إلينا ويجيل النظر فينا واحدا واحدا، وحين هدأت الأصوات قال أخي:
ورق ورق ورق
من أين يأتون بكلّ هذه الأوراق؟
إنّ ورق مصر كلّه لا يكفي لهذا الكمّ من البيانات، كانت هناك في مدينتنا أكبر مطبعة مختصّة بأهمّ بياناتهم، ولديهم بجانب هذه المطبعة أكبر خزّان مياه يورّدون لمدينتنا الماء منه، وكان على حسب قول أخي: أكبر مخازنهم للورق تحت هذه المطبعة، استيقظت في أحد الأيّام حسب الموعد المحدّد الثانية ظهرا، حسب الجدول الّذي زوّدونا به وفيه وقت الاستيقاظ، لم أجد أخي بجانبي، خفق قلبي لأنّه استيقظ قبل موعدهم الّذي وضعوه بحثت عنه في أرجاء المنزل لم أجده، طرق الباب بقوّة توالت الطرقات على بابنا، كان على الباب مراقب الاستيقاظ والنوم يأخذ تفقّده سألني أين أخوك؟ لم أستطع الإجابة، أعطاني ورقة هيّأها مسبقا تقتضي بمراجعة أخي للمحكمة ليمثل أمامهم لعدم التزامه بالقانون الموضوع.
أتى أخي بعد دقائق، ثيابه ملئت طينا وشعره المهوّش، وعيناه قد دلّت على عدم نومه الليلة الفائتة.
قال لي مزهوّا منتصرا: قد قضيت عليهم.
وما إن أنهى كلامه حتّى علا الصراخ المدينة، كان الجميع يصيح والجميع مرتبك وأخذ الأطفال يصيحون: قد غرقت المطبعة الأمّ.
كان جنود الجماعة لا يدرون ما يفعلون، لم تصدر بيانات اليوم لتدلّهم على وجهتهم كانوا لا يجدون حيلة.
ولكن نحن بالطبع كنّا ندري ماذا نفعل، بل كنّا نشتاق للّذي كنّا نفعله، نشتاق عصافيرنا وحدائقنا وسهراتنا الأنيسة وأحبابنا الطيّبين، أعدنا طلاء مدينتنا بألواننا؛ ألوان حياتنا وموسيقى جدّاتنا، عرشهم ذاك الّذي بنوه بورق بياناتهم انهار بماء حياتنا، سطوتهم تلك الّتي أرعبونا بها استحالت ذكريات نتلوها لأحفادنا، جنودهم هم اللغز إلى الآن: أين ذهبوا وأين اختفوا؟؟
ولكن هكذا على مرّ التاريخ أعتى المجرمين تهزمهم أهون الأسباب وأسوأ الكوابيس يهزمه استيقاظ.