"سلمى" تلك الزوجة التي للمرة الأولى أيضاً أقف معها في صفها وأقول مثل ما تقول "النساء شقائق الرجال" قلتها في خاطري بالطبع خشية أن أفيق بعد قليل وقد صحت بي نشوة الرجولة!

يحدث أن أقرأ سورة البقرة في كل صباح على نية تغيير الحال للأفضل، مرة ً أقرأها وأنا في طابور الفران ومرة ًأقرأها وأنا واقفاً أعد ما تبقى في محفظتي من نقود أمام بائع الحليب ومرة ً أقرأها وأنا أبحث عن إنسان ومرةً وأنا أبحث عن وطن…!

ظل يضحك وأنا أحكي له سري وعادتي الروحانية تلك، حتى ظننته ملحداً، ثم ذرف دمعتين، وقال بغصة: 

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

جرٌب أن تقرأها على كل من تلقاه لتجده يقرأها عليك وكأنها لعنةً متبادلة، لا حقيقة لا مفر لنا منها ولا نجاةً لنا إلا بها…

نزل من الحافلة وفي قلبه الكثير ليحكيه، وفي فكري القليل لأناقشه…

شغلتني عنه تلك العجوز التي كانت بجانبنا تحيك معطف من صوف مهترئ أحمر اللون مائلاً للسواد في أماكن كثيرة من خيوطه، وكأنه مشى على أطراف مدفأة ولم يحترق…!

ووجدتني أقول: جميل ما تفعليه يا حجة!

دسته سريعاً في كيسٍ أسود مطمور تحت ثوبها وتنهدت متمتمه… استغفر الله.. استغفر الله… استغفر الله

لم أمنع نفسي من فضول سؤالي فسألتها هل قلتُ ما يزعجك!

أكملت استغفارها دون أن تلتفت إليّ وكأني ذنب تتنظر أن أتلاشى لتهدأ…!

لم يهدأ خاطري الشارد في” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”

لقد حاولت أن أغير اتجاه أفكاري، يا الله فما الذي قد أكون أذنبته مع هذه العجوز الخرفة حتى تجعلني ضحية صوفها العفن ذاك…!!

استدارت صوبي وكأنها قرأتني وقالت: لم أسألك رأيك!

وأشارت لسائق الحافلة بأن رحلة استغفارها قد انتهت.

ونظرتني وكأني بات لدي ما استغفره.

استدار الطريق في مخيلتي وكأننا في دوامةٍ لا قاع لها، لم يعد ينتهي ولم نعد نملك حق الوصول…!

 فالطريق مزدحم بالحافلات المتعبة والأنفاس المتهالكة، مع أن كل الاماكن التي يزورها ويوصل منها وإليها منكوبة، فلماذا كل هذا الازدحام يا الله!

لماذا كل هذا البؤس!!

أغمضت دموعي، وتمالكت أفكاري، وتركت رأسي لارتجاج زجاج نافذة الحافلة وبدأت أقرأ سورة البقرة غير مبالي بكل ما جرى…

(لعنة الله عليك) سقطت في سمعي مثل رصاصة فاستفاقت حواسي، وبدأت أضع رأسي في مكانه من الإدراك على أفهم ما حدث. سألته: أتقصدني أنا بتلك اللعنة!

ناولني مصحفي الجيبي وقال أعتذر منك ظننتك رميته قصداً لم أعتقد أنك غافل.

غافل! 

جاوبته: وعلى فرض أني رميته منذ متى ندافع عن كتاب الله باللعنات؟!

قال يا صديقي: خذه ودعني في شأني فلا طاقة لي لأمثالك…!

لا أعرف بعدها ما حدث حقيقةً أذكر جيداً أني وضعت مصحفي في جيب معطفي الداخلي، وبدأت بعدها كل أعضائي بالركل واللطم في تلك الحافلة اللامتناهية في السير وكأن لا فرامل لها ولا ذاكرة لمقودها.

ناولني منديلاً وقال لي امسح دموعك يا جبان، وأكمل والله لولا المصحف المخبأ في معطفك لجعلتك “مشروع جثة”.

نظرت في عينيه الغائرتين وكأنه ما نام منذ أن خط شارباه.

قال وهو يبتعد إما أن تعبد الله بقوة أو تتوقف عن استجداء الإيمان!

توقف كل شيء ساعتها، تبنت قدماي ضياعي وأخذت تسير بي ثكلى إلى البيت…

نزلت لحزني وقبلت كفي كثيراً، وبكت بعد أن حكيت لها للمرة الأولى ما حدث معي. 

“سلمى” تلك الزوجة التي للمرة الأولى أيضاً أقف معها في صفها وأقول مثل ما تقول “النساء شقائق الرجال” قلتها في خاطري بالطبع خشية أن أفيق بعد قليل وقد صحت بي نشوة الرجولة!

صمتنا قليلاً…

ثم بادرت للمرة الأولى أيضاً وسألتها عن جلستها النسوية تلك التي حضرتها في غيابي مع مجموعةٍ من النساء الذابلات “القويات” (كما تحب أن تقول)

اتسعت حدقتها وكأنها نالت جائزة الفخر الكبرى…!

وبدأت تحكي لي تفاصيل التفاصيل عن زوجة مطلقة، وأم لطبيب جراح ذو أخلاق ومهنية عالية يحلف برأسه معشر الرجال الذي نشلت نفسها منه أمه يوماً ما!

وعن أخرى تزوجت ممن أحبت وذهبت معه خطيفة كما يقال، وأصبحا الآن العائلة المثلى لخمسة أطفال يضرب بها المثل في كندا ويتقرب منها كل الجاليات لينهلوا مبادئ التنشئة السليمة والحياة الزوجية الصحية!

وعن أخرى بلا مأوى تمسح دمعها بطرف ثوب رضيعها وتبيع مناديلاً لمسح الجباه وادعاء الخجل…!

وعنها وهي تتحدث عن أميتها وعن طفلتها حافظة القرآن…!

وعن كثير من الحلويات والمخبوزات التي تشاركن صناعتها وأكلها على نية الاكتفاء الذاتي بآمالهن.! 

واختتمت جلستها تلك بعنوانها” أنتَ أقوى”

لتأكد لي بأني أقوى.. أقوى بها على حد تعبيرها ترددها وتضحك!

فاستعيد رجولتي وأمسك بكفيها وأقول لا تقولي ذلك مرة أخرى أبداً…

اذهبي واستجمعي قوتك في كوب شاي لعلي به أريح رأسي من حديثك السخيف!

تحركت من أمامي ببطء شديد وصوت غصتها يقول “حقاً إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”

من انا يا الله؟!

صرخ بي كل شيء

ولم يملك مني شيء من جواب

جاوبتني خيبتي بأني

لم أنفع كمواطن ووطن

ولم أفلح كزوج وصديق

لم تغفر لي طقوسي الروحانية ولا سورة البقرة

أنا حتى لم أنجح في مجاملة عجوز…

عجوز!

هي لم تكن عجوز حقيقةً، وحياكتها كانت عادية وصوفها كان مهترئ، وحقا ًلم تطلب مني رأي

وإن طلبت….

ما كان ذلك رأي!

ماذا كان ذلك؟!

“مجاملة كاذبة”

لكنها لم تسأل!

“ديمقراطية مقنعة”

أجل إنها كذلك ديمقراطية زائفة تجبرها بها أن تسمع رأيك في أمر لا يعنيك ويكون رأيك كاذباً

أووووه

أجل…معها حق إنه التغيير الذي ألهث به 

التغيير الذي لم أستطعه بنفسي

ولن يستطع عليه الجميع

إنه التغيير الذي أنويه في استنجادي بسورة البقرة 

والذي ينادي به الجميع باسم “الديمقراطية”

نحن لا نحتاج لديمقراطية فعلاً

نحتاج أن نكون صادقين

صادقين يا الله

وحقيقين وبعيدين عن حشر الأنوف في التوافه وعن لبس عباءات لا تستر عوراتنا، وقريبين حين تستدعي المواقف أن نقول ولا نقول.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *