صور متزاحمة في الذاكرة تحط عليها ذبابة زرقاء بعيون واسعة مدوّرة، تلتهم بنهمٍ أي مشهد، حتى راح يعتقد أن تلك الذبابة تقطن داخل رأسه، يرافقه طنينها يعلو ويخفت، يزداد إلحاحاً أو يتقطع لكنه لا يغيب.
على عكس أبناء قريته الذين اعتادوا وجود الذباب بكثرة من حولهم، كان يشتم بسره الذباب حين يحط بثقل حول أفواه الأطفال الفاغرة، وعلى عيون أبقار القرية الهزيلة، أو عندما يعكر صفو عجوز يحاول الهرب من ضجر الظهيرة بقيلولة.
كان سكان القرية يعلقون أكياساً شفافة مملؤة بالماء على أبواب بيوتهم كحيلة لإبعاد الذباب، فيقف طويلاً محدقاً بالأكياس كأنها بحاراً تطفو داخلها سفن بأشرعة كبيرة، وتعج بأسماك بألوان آسرة لكن ما إن تحط ذبابة على الكيس يتمزق الشراع وتتلاطم الأمواج بداخله مُغرقةً السفن.
رن الجرس، اصطف التلاميذ، إنه اليوم الأول بالمدرسة، وقف في نهاية الصف مترقباً بفضول ما سيجري، وقف المدير و من حوله المعلمات، انهمر على التلاميذ بوابل التعليمات والشعارات، وبشكل مفاجئ راحت الكلمات تتداخل، حدق بشفاه المدير الغليظة محاولاً التقاط الحروف لكن دون جدوى، فقد تحول صوت المدير لطنين ذبابة راح يتلفت من حوله التلاميذ، يصفقون بحرارة لكن صوت الطنين يعلو ليسود المشهد و يبتلع معه قدرة الصغير على فهم ما يجري.
ازداد هلعه حتى تبول بسرواله القصير، أثار ما حدث استهجان وسخرية التلاميذ على مدار العام. أما الصغير المسكين لم يستطع إعلام أحد خوفاً من عدم التصديق، ومع الوقت اعتاد ذلك الصوت، بل أصبح كل موقف أو حديث يثير القلق سرعان ما يتحول إلى طنين.
حاول المراوغة والتحايل مئات المرات للتوقف عن الذهاب إلى المدرسة التي اقترنت لديه بهذه الظاهرة الغريبة، لكن كل المحاولات لم تنفع، لذا أمضى أعوامه الدراسية منعزلاً شارد الذهن، وغالباً ما كانت لحظات الصحوة قصيرة مرتبطة بصوت جرس المغادرة حين يعلن نهاية هذه الرحلة الثقيلة.
على هذه الحال مرت الأيام ببطء شديد، إنه اليوم الأول بامتحان الشهادة الإعدادية، وصل متأخراً، صعد الحافلة محاولاً حشر جسده النحيل بين الطلبة متجهين للقرية المجاورة. دخلت المعلمة قاعة الامتحان بخطوات عجولة، وبصوت حاد مرتفع، بدأت بإعطاء التعليمات وتوزيع الأوراق، مر وقت طويل وهو يراقب تعابير وجهها المطلي بمساحيق التجميل إلى أن صاحت بأسنانها الصفراء بوجهه، باشر بالإجابة وسرعان ما قفز لذاكرته يومه الأول بالمدرسة، علا صوت الطنين، تسارعت ضربات قلبه، وبيدين مرتجفتين قام بتسليم ورقته خالية وخرج دون رجعة لتنتهي هنا رحلته الدراسية.
الوقت يحلق بجناحين من فراغ، ببطء مريب بعد أن حاول مراراً وتكراراً إيجاد عمل طيلة السنوات الأربعة الماضية، ولم ينجح، فمعظم الأعمال في القرية تتطلب خشونة، بينما هو يبدو كعجوز خرف، لذا كان دائماً يواجَه بالرفض والاستنكار، وبكل مرة كان يفكر ملياً من الذي ابتدع مفهوم القوة الفاجر ذاك، وبعد كل محاولة يتساءل هل سأنزوي مجدداً،
فكرة (الحرب يا للخلاص الجميل …..) إلى أن لمعت بذهنه
هذه الطريقة التي لن أعود بعدها أبداً كما كنت “يتحدث في قرارة نفسه”.
مرت بضعة شهور على التحاقه بخدمة العلم ليجد نفسه كل يوم بمواجهة الموت، تحول الطنين الذي ما زال يرافقه لضوضاء وصراع مع أصوات المدافع وأزيز الرصاص والوجوه التي تصرخ، راح يشعر أن رأسه قد تضاعف حجمه حتى حين يهدأ صوت الرصاص تستمر الحرب. هذه الحرب التي احتلت رأسه فينتهي به المطاف أن يتوسل كل الأصوات أن ترحل ألا تبقى عنوة، فقد هدمت كل ما في الداخل وأحالته قتيل وهو الآن محاصر ولا يريد أن يُقتل مرتين.
كان يسطو الخوف عليه كل ليلة فيتكور وحيداً مثل جنين، وبإحدى الليالي الباردة بينما الكل نيام، استيقظ ذلك الجندي ذو الملامح الهادئة بالرغم من الذعر الذي يرتدي وجوه الجميع.
اقترب منه، لماذا ترتجف؟
همس، أتصدق أنا لم أعش يوماً، هناك صوت يستولي دائما عليّ
-أصدق
وقبل أن يخرج لفه بحرامه بحذر كما لو أنه عصفور مبتل مذعور، منذ تلك اللحظة نمت ألفة بينهما، كان يتحدث إليه مطولاً دون توقف أخبره عن أبيه الذي يخجل من الاعتراف به أمام العائلة والأصدقاء، فهو الأبله الذي كان يقضي نهاراته يخطط للقضاء على الملل لكن دون جدوى، عن دهشته بمكر أخيه الأكبر الذي كان يحظى باهتمام الجميع وحبهم الأكيد، عن صبر والدته التي هرمت فجأة وماتت، عن الفتاة التي أحبها سراً بعينيها الخضراوين وغمازتها، عن يومه الأول بالمدرسة، عن قريته وكيف أمضى أعوامه وحيداً مُلقباً بالمعتوه. حدثه عن كرهه للذباب الذي يغطي ذكرياته، وكيف يحتل الطنين رأسه بشكل لا يحتمل، عن رغبته بالتخلص من هذا ليعش يوما واحداً حتى لو كان اعتيادياً، وكم تبادر لذهنه أن يُطلق الرصاص على رأسه وغالباً ما كان يسقط بنحيب طويل ممتلئاً بالدموع في نهاية الحديث، أو يغفو بشكل مباغت مثل طفل بعد ساعات طويلة من اللعب.
ومع الأيام كلما تحدث إليه كان الطنين يخفت شيئاً فشيء ويتلاشى، وتحولت أحاديثهما ليلاً لسكينة لم ينعم بها يوماً، في إحدى الصباحات بدأ صوت الرصاص يقترب يعلو ويعلو بينما الجنود نيام في أسرة الخوف ليباغتهم انفجار القنابل فيلطخ الدم حتى الأحياء منهم، بدأت الأصوات تعلوا ” انسحبوا دعوا الجثث على الأرض وانسحبوا لا وقت لتسعفوهم “.
راح بهلع يبحث عن صديقه القوي الواثق ليتعثر به جثة هامدة مفتوح العينين التي انطفأ بريقها، ساكن عن الحركة يغزو الذباب وجهه البارد دون مقاومة مغيّباً ملامحه التي ألفها، اقترب ليتحسسه ليخبره بالمزيد لكن هذه المرة لا يصغي، يضع رأسه على صدره لعل قلبه يدق، تعود الأصوات والصرخات لتدوي “انسحبوا”.
خرج من بقي حيا لتتوقف بعد مرور ساعات المعركة، عند الظهيرة وسط الركام ورائحة الدم تملأ الفضاء، اجتمع الجنود لتناول الغداء بينما هو ما زال بحالة ذهول يحدق بالفراغ بعيون خرساء كعيون التماثيل الحجرية الباردة، تتصاعد أصوات الملاعق المرتطمة بنهم بالحلل المعدنية. كما علت أصوات الجنود تبدد رعب الصمت لكنها بدت بعيدة جداً، صوت وحيد اخترق مسامعه ذبابة زرقاء تحوم فوق رأسه، تحط على وجهه لتلعق الدم البارد الذي يغطي فمه، تطير وتحط على كفيه، تحاصره، يلاحقها بعينيه كأنه لا يرى سواها يحرك يده محاولاً التقاطها، هاهي تقف على ركبته الآن، وبكل ما أوتي من قوة يوجه ضربة لها بسخط لتسقط في صحنه، تمر لحظات وهو يحدق بها دون حراك، يمر شريط حياته داخل رأسه على عجل ليقطعه صوت الجندي بجانبه قائلاً بسخرية: ما بالك يا رجل تناول طعامك إنها مجرد ذبابة في صحن حساء.
–