سيرورة التشظي (هدم الإنسان وتفكيك الجماعة)

لقد تغير العالم بشكل متسارع منذ الألفية التي مازلنا في بدايتها، وكان للبشرية جمعاء نصيب من إرهاصات مفكري القرنين الماضيين حول التحلل والتفكك والسيولة والتشظي، وكلها مصطلحات تفيد التشتت والانتقال إلى حالة أقل تماسكاً من سابقتها؛ وبعيداً عن معاني هذه المصطلحات وسياقاتها ضمن النقد والأدب، يمكن تتبعها على كل من مستويي الفرد والمجتمع، لِما تشكله من عقبة في وجه المسائل التي تتطلب حلولا تقوم على القيم الإنسانية الفردية والجماعية، كما في المسألة السورية الراهنة، وخصوصاً بعد التعقيدات الكثيرة التي مرت بها حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، إذ يتطلب الحل السياسي في هذه المرحلة حالة أكثر تماسكاً على مستوى الجغرافية السورية ككل، بحيث تنتج حلاً جامعاً يُرضي جميع الأطراف، مبني على الحوار الوطني بالانفتاح على الآخر وقيم العدالة والمساواة.

لقد شهدت الثورة السورية منذ اندلاعها مدنية وسلمية مختلف المحاولات لتشتيت صفوفها من قبل النظام وغيره، على أسس التفرقة الطائفية والقومية، رغم انطلاقها من مبداً وحدة الشعب السوري بكل أطيافه، وقد كانت لتلك المحاولات أثرها الواضح على الثورة بتشتيت بنيتها وتحويلها إلى صدام مسلح عن طريق العسكرة، ومن ثم إلى أزمة من خلال إطالة أمد الحرب وممارسة سياسات الإفقار والتضييق والحصار الاقتصادي، وبذلك أصبح التوجه العام في الحديث عن الثورة السورية يتخذ صيغة الحرب والأزمة والصراع الطائفي كشأن داخلي، مما زاد في عزلة هذه الثورة وفصلها عن سياق الربيع العربي الذي طال المنطقة، وقد مكن ذلك النظام من الاستمرار في نهجه المضاد للثورة، على الأخص بعد ظهور الحركات المتطرفة، التي مكنته من شن حرب إبادة على الشعب السوري، واستجلاب مكونات غريبة لتخريب نسيج هذا المجتمع وإضعافه، وقد تمكنت تلك الممارسات من تفريق المعارضة السورية إلى فئات متناحرة، فغاب الطابع الجماعي الموحّد لها، وفقد الشعب فاعليته ككتلة متجانسة، مما دفع المعارضة إلى الاستعانة بالمجتمع الدولي الذي وقف متردداً أمام قضيتنا، بسبب غياب خطاب جامع يعبر عن كل أطياف الشعب السوري، حتى أن بعض تلك الدول في الفترات الأخيرة، وتحديداً الدول العربية باتت تلوح بفشل الثورة، وإعادة قنوات الاتصال مع النظام، باعتباره مازال الممثل الرئيسي لسوريا في المحافل الدولية رغم الرفض الشعبي له، وهنا كانت الطامة الكبرى، إذ ترجح بذلك كفة الموازين والقوى الدولية على حساب إرادة الشعب الحرة.

إن أصعب ما يمكن أن يمر على قيم شعب ما هو الشعور بفشل ثورته، التي قدم لها الغالي والنفيس، لما في ذلك من أثر خطير على هدم الإنسان والمجتمع من خلال إفقادهما الثقة بالنفس وبالمبادئ العادلة التي نادى بها، وانجراره إلى الاعتقاد بنظريات المؤامرة والإيمان بالجبرية وحتمية التاريخ ضد إرادة الشعب، فيغدو الإنسان محطماً والشعب ضعيفاً ممزقاً، وهذا هو حال السوريين اليوم، هويتهم مهددة بسبب الشتات، ووطنهم بدعوات الانقسام. كما أن الخيبة الناتجة عن الشعور بالفشل الثوري، سوف تجعل الإنسان الفرد في حالة ضبابية فيشك في صوابية مبادئه التي ناضل من أجلها، ويبدأ البحث عن الخلاص والنجاة من خلال حلول فردية ومؤقتة، متخلياً عن مسؤولياته اتجاه قضايا وطنه وشعبه مكرهاً، لأنه فقد الإيمان بقيمة العمل الجماعي الثوري، وهكذا يتحلل الأفراد وتتشظى الجماعة وتفرغ من محتواها، لذلك كانت السنوات الأخيرة تتميز باليأس الذي سيطر على السوريين بشكل عام، وعلى سوريي الداخل بشكل خاص، باعنبارهم الفئة التي يمكن أن تحرك شيئاً على أرض الواقع، لكنهم بعد كل ما مر عليهم وإمعاناً من السلطات في تهميشهم وإفقارهم، وجدوا أنفسهم غارقين بالأزمات المعيشية، ولم يعد في المناطق التابعة للنظام أي إشارة لشعب يريد أن ينتفض، إذ اكتمل بعد كل تلك المراحل هدم الإنسان وتهميشه، لنجد الشوارع مزدحمة بالمتسولين، وكذلك المجرمين واللصوص الصغار والعائلات التي تعيش على ما تجمعه من مكبات القمامة، ما يشي بتحول طبقي يؤدي إلى ظهور طبقة مسحوقة لم تشهد سوريا مثيلاً لها بهذا الكم وهذه الكثافة. ولذلك فإن وقوف الشعب عن المطالبة بحقوقه في هذه المرحلة سيعني الضياع لكل مكتسبات الحرية والكرامة التي حققتها الثورة.

ومنذ حوالي العام عادت انتفاضة السويداء لتكمل مسيرة الثورة السورية بطابعها المدني والسلمي، مؤكدة على وحدة السوريين بمختلف طوائفهم، ومرددة نفس الشعارات التي نادى بها الشعب منذ بداية ثورته، وقد ظهرت أصوات منذ بداية هذه الانتفاضة تقول بلا جدوى هذه الحركة، بسبب حالة الإفراغ التي تعرض لها الشعب في الداخل، وبسبب التوقيت وظروف تلك المرحلة على المستويين الداخلي والخارجي، متناسين بذلك أهمية هذه الحركة على مستوى الفرد والجماعة، فحتى لو لم تكن لها نتائج فورية وملموسة، إلا أن لها أهمية جوهرية في التأكيد على قيمة الفرد والجماعة في عملية التغيير السياسي، وإعادة الثقة للناس بفعاليتهم كمجتمع مدني، ورغم بعض الأصوات الناشزة التي نادت بالانفصال، تمكن الشعب من تنظيم صفوفه في حراك مدني مازال مستمرأ حتى الآن، مؤكداً على وحدة السوريين واشتراكهم في الهوية والمصير؛ وتأتي الأهمية الأساسية لهذا الحراك من خلال خصوصيته المتعلقة بارتباطه بالأقليات، فيلعب بذلك دوراً مزدوجاً، أولاً بدحض رواية النظام حول حماية الأقليات، وثانياً بتأكيد وحدة الشعب السوري بكل مكوناته في المطالبة بالحرية، فضلاً عن وجود دور فاعل للنساء في هذا الحراك ما يعكس صورة حضارية عن الثورة السورية، بعيداً عن التعصب الذي استغله النظام وساقنا بحجته إلى أهوال الحرب، ولذلك نحن كسوريين مطالبين بتأكيد هذه الصورة، لأن المجتمع السوري يقوم على التنوع والاختلاف وعلينا أن نفهم هذا الأمر على أنه جوهر وميزة هويتنا السورية وليس سبباً للتفرقة والاقتتال.

هذه القيم الإنسانية هي ما يجب التأكيد عليه في  المرحلة الحالية، على الأخص في ظل تجدد الحراك السلمي في كل من الشمال والجنوب، فرغم اختلاف الظروف بقي الشعب واحداً في نهجه بالمطالبة بالحرية والكرامة، من أجل إعادة بناء الإنسان وتعزيز الدور الفاعل للجماعة في عملية التغيير، فإن لم يكن هناك بد من التدخلات الخارجية، يبقى الحراك الشعبي بما يحمله من قيم هو العنصر الأساسي في هذه العملية، فالشعب هو الضامن الأساسي لهذه المرحلة وكل مرحلة، وعلينا اليوم أن نكون واعين لهذه المسألة، وأن نستفيد من دروس المراحل السابقة، فلا تبنى الأوطان إلا بالإنسان.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *