– ربيع سوريا يبدأ من الداخل –
في عام ١٩٤٥ ظنَّ “بول تبيتس” لوهلة أن القنبلة التي رماها فوق هيروشيما لن تحدث فارقاً كبيراً (١)، وماهي إلا دقائق وإذا بها تذر الديار بلاقع وتهلك الحرث والنسل (٢).
وكان من مخرجاتها أن جَثا إمبراطور اليابان على ركبتيه وبكى وأبكى، وبثت الإذاعة كلمته عن قبول الاستسلام على شروط الحلفاء المذلة.
وقبل هذا بأشهر قلال قضت طلائع الجيش الأحمر على فلول النازية، وجاثت الرايخ.
ولقد تأخرت نسبياً بالدخول إلى برلين لانشغال الجنود بالسرقات والاغتصابات الجماعية وتعمد الإذلال المبالغ فيه للألمان)٣.(
وماهي إلا سنوات قلائل حتى تربعت اليابان على عرش أقوى الاقتصادات العالمية بعد الولايات المتحدة، ولا يخلو منزل أو منشأة أو بنك أو مشفى من منتجاتها فائقة الجودة عالية التقنية.
وتحتل ألمانيا المركز الثالث عالمياً، ويصبح الميكانيك الألماني مضرب للمثل وحديث الناس هذا من الناحية الاقتصادية (٤). ولو انتقلنا للحديث عن الحريات والعدالة الاجتماعية، والنظام الصحي، وازدهار العمران، وثائر المقومات الحضارية؛ فلك أن تختصر المشهد بسؤالك لمن باع داره وأقحم نفسه مع عصابات الاتجار بالبشر وركب البحر كي يصل فرانكفورت، فتسمع منه عن تلك البلاد ما يغريك بتكرار ما جربه وتضرب بالمخاطر عرض الحائط، ولو وجد سبيل جغرافي أو منفذ وطريق للوصول لكوكب اليابان كما يحلو لأحمد الشقيري أن يسميه (٥)، أكاد أجزم بخلوا سوريا والعراق واليمن من ساكنيها.
لاكن لماذا؟
لماذا هذا الفارق والبون الشاسع بيننا وبينهم، وضراوة الحرب العالمية الثانية أمرُّ من الحرب السورية وأعتى.
لماذا هذا الرخاء الاقتصادي والبسطة في الرزق، وبلادنا أثرى من بلادهم وأرضها أخصب وتموضعها الجغرافي أهم.
هل هي الدعوة التجديدية لمارتن لوثر أم حِكَمُ وفلسفة الساموراي المثبَّتة على قصبات البامبو؟ وقد ابتعثوها بعد الحرب وبنوا دولهم بها!!
لكن أين نحن من ممشى يسوع الناصري في الجليل، ومآثر علماء الأندلس، وكتابات الفلسفة المتعالية، التي خطت في الشام وأكنافها، وملاك ذلك وآخره رسالة الإسلام السمحاء. ومع دراسة فاحصة واستقصاء دقيق ومقارنة من أي باحث وناظر في أحوال هذه الدول الثلاث (ألمانيا، سوريا، اليابان) يرى بينها مد وجزر وتشابه واختلاف كسائر المجتمعات الإنسانية.
وخيط الصيد ومكمن الحل في هذه التجارب كلها هو الإنسان.
ليس المال أو الظروف أو التحالفات الإقليمية أو إسرائيل أو الماسونية أو الأمم المتحدة أو الشيطان أو المناطق المفيدة والثروات الباطنية……والقائمة تطول.
إن الإنسان وحده لاريب المسؤول عن أفول هذه الحضارة وازدهار تلك الدول.
عندما كان المبتعث الياباني يبكي لتعذر فهمه مسألة علمية ظهرت توشيبا (٦)، وفي اليوم الذي التزمت فيه سيدات ألمانيا بإزالة الركام الناجم عن قصف الحلفاء طواعية وبدون أجر (عشر ساعات في اليوم) أصبحت روتب اللاجئين الفارين من الحروب تضاهي رواتب رؤساء تلك البلاد التي خرجوا منها – ونحن هنا بصدد ما أحل أخذه وفق التشريعات والقوانين الناظمة لعمل رئس الدولة، أما سرقة البلد والشعب فهذا لا أعنيه لوضوح الفارق-.
وهذا الإنسان نفسه عندما أقدم بذيه العسكري غير اللائق يضرب من رق عظمه واحدودب ظهره، واقتربت منيته، وشاب صدغه، ليقنعه أنه فارس أحلام ابنته (٧)، ضاعت الحقوق، وقلبت الموازين، وأصبح حال المجتمع السوري كحال من غزَّ في الصحراء طويلاً، وأنهكه التعب فنظر أمامه فرأى الشاسع الكثير، ونظر خلفه فرأى خلفه ما رأى أمامه فأدركه العجز وأيقن بالتيه.
نعم نحن في تيه حقيقي والمخرج الوحيد هو استنجاد من أقحمنا في هذا المأزق أنت أيها الأنسان.
وكلامي هنا ليس عن “جو بايدن ولا سيرغي شويغو ولا القرشي أو القائد العسكري هذا، ومدير المنظمة الإنسانية تلك، كلامي عنك وأخصك أنت يامن تاه في الصحراء.
إن كنت سياسيا فكن إنسان، وتذكر البطون الجائعة والأرجل الحافية، التي تعول على ما تفاوض، وإن كنت عسكريا فكن إنساناً، واعلم أن الرصاص الذي تهدره بطراً في الأعراس والأفراح قد وصل إليك لتحمي به الثغور، وإن كنت قاضياً فكن إنساناً، واعلم أن كث الشعر نتن الرائحة صاحب الملابس الرثة أوفى ميزانا وأقيَمُ حجة من نزيل الهلتون ومتصيد الماركات، ولا ضير يا معافيَ الأسقام أن تتذكر قسم أبقراط (٨) وتعالج تلك الفتاة بنصف حقك وأجرك وتكن إنسان، ويا أستاذ المدرسة لي معك وقفات؛ فلئن كان المجتمع في كفة وأنت في كفة، ينبغي أن تثقلَ عليهم وترجح. إن الطالب الذي علمته إما أن يطور البارود فيزيد فتكاً، أو أن يطور آليات انعدام الكربون.
والفتاة التي ترمقك بعينيها قد تحيل الحبلى للعملية القيصرية دون الحاجة فقط للرغبة في المزيد، أو قد ترسم الابتسامة على شفاه الأهالي نتيجة تطوير لقاح شلل الأطفال.
أنت إيها المدرس!! قد تُخرِج على يديك من نظر إلى سوريا من الفضاء الخارجي وحيَّا أهلها (٩)، وتخرج من اخترع البراميل فسام الناس العذاب.
أود أن أهمس أيها المدرس بأذنيك كن إنسانا وعلِّم الطلبة أن يكونوا.
إن الخلاص الحقيقي المستدام لعذابات الشعب السوري ليس في مؤتمر المانحين ولا في الدول المسماة أصدقاء سوريا (مشكورين)، ولا بزيادة الدعم أو انقطاعه، ولا بجنيف واحد، أو المسار هذا وذاك.
إن الخلاص يكون من الداخل 《 عندما يريد الناس تغيير العالم، وأنت تريد تغيير نفسك》 (١٠)، 《عندما تحس بألم الصفعة على خدك عندما يتعرض لها أي مظلوم في الجهة الأخرى من الأرض》 (١١).
سوف ترى ناطحات السحاب في دير الزور، عندما لا ترى الأوساخ في كورنيش اللاذقية. وسترسل مساعدات الشعب السوري للمناطق المتضررة بالزلازل أو الصراعات والأعاصير عندما يخطب ابن عامل النظافة الكفؤ ابنة البرلماني فلان أو مدير المشفى علان، وستحصل سمر على نوبل في الآدب عندما يخبرها مدرسها أن خيمتها التي إليها نزحت لا تقل جمالا عن البيوت المطلة على بحر مرمرا …
فالإنسان إنسان.
وعندما ترى أمير المجموعة العسكرية أو الفرقة هذه أو تلك، يعمل في الحلاقة كي يسد جوعة أهله، فانتظر اليوم الذي ستتفوق فيه المنسوجات الحلبية على زارا وأديداس.
إن الأمم إذا استوت قوتها بدأت تتفاضل بالعلوم، وإذا استوت معارفها كان التفاضل بالأخلاق.
هذا المقال ليس مثالياً يبحث عن مدينة أفلاطون، ولا أخلاقياً يغازل القيم والمُثُل، بل هو سياسي بامتياز، بيدَ أنه نظر للسياسة من التجربة الألمانية واليابانية، وإن شئت قل الفطرة الإنسانية ولا يعنيه ما كتبه ميكافيلي والاستبداد الرعن في الأمير.
——————————————–
١ – وثائقيات الحرب العالمية الثانية معركة بيل هاربر وماتلاها.
٢ – الديار البلاقع: الجرداء التي لا خير فيها.
٣ – إبكالبيس: الجزء الرابع والخامس.
٤ – تعدل الترتيب في السنوات الأخير ظلت الولايات المتحدة متصدرة المشهد فالصين، ثم ألمانيا، فاليابان.
٥ – أحمد مازن الشقيري: إعلامي وكاتب ومؤثر اجتماعي سعودي ومقدم السلسلة التلفزيونية الشهيرة (خواطر).
٦ – لا يكاد يخلوا كتاب عن التحفيز من تجارب اليابانيين وقصصهم، ولعل أشهرها قصة تاكيو أوساهيرا.
٧ – انتشرت مثل هذه الانتهاكات على ألسنة الناس في سوريا بل ووجد ما هو أفظع منه وتوثيقها لا أجزم به ولا أنكره.
٨ – قسم “أبقراط” ميثاق شرف طبي في غاية الإنسانية والاحترام للصنعة مشهور عند الأطباء.
٩ – رائد الفضاء السوري محمد فارس.
١٠ – مقولة في غاية العمق للأديب الروسي ليو تولستوي بتصرف.
١١ – مقولة منسوبة للمناضل الماركسي أرنستو تش غيفارا بتصرف.