ذاكرتنا السورية التي اختارت أن تبقي شيئاً ما جميلاً
في عالم اليوم، تبدو ذاكرتنا القريبة مشوّهة. كل شيء سريع، غارق بالخوف، قَلِق، متوجّس، ويعيش صراع بين الرغبات وصدمات الواقع، لذا اختار كثيرون منّا أن يرسموا ذاكرة جمعية فريدة، جميلة كحلم، ومثيرة تسافر معها خيالاتنا إلى حيث نحب.
ليس صعبأً اكتشاف ما إذا كنت تمتلك تلك الذاكرة، فقط اسمح لنفسك بأن تكون في إحدى الليالي جاهزاً للتجربة، أحضر هاتفك، أو لابتوباً، لا فرق، ادخل إلى إحدى الصفحات، مجموعات (ذكريات التلفزيون السوري) أو قلّب مقاطع فيديو مشابهة لهذا العنوان.
لو وجدت نفسك منغمساً، تقلّب مقطعاً تلو الآخر، وتقرأ عشرات المنشورات والتعليقات، ثم تستدعي صوراً قديمة متنوعة ومثيرة من الماضي، تضيع معها ساعة أو ساعتين، هذا يعني أنك انضممت إلى نادي (ذاكرة الحنين السورية).
ننتمي إلى هناك
الآن دعني أسألك سؤالاً: “كم مرّة وجدّت حديثك، مع قريب أو صديق، سار نحو الماضي، بطريقة تبدو كما لو أن كل شيء كان جميلاً قبل عدّة سنوات. خبز الصباح، الفطور العائلي، رحلة المدرسة، الرفاق، بدلات الفتوّة، طريق العودة، عشرات التفاصيل الكثيرة، يتلاشى معها عامل الوقت، كما لو أنه في هذه اللحظات غير موجود؟”.
قبل عدّة أشهر، تمكّنت داخل الفيسبوك من العثور على حساب لأحد أصدقاء الطفولة، قضيت 10 أعوام برفقته، نتسكّع في أزقة دمشق، نزور مقاهيها، بما يتبقى معنا من مدخرات، نتاج عمل ما بعد الدراسة.
كانت صدفة جميلة، سُرقت منّا، بفضل سنوات الحرب السورية وتخبطات اللجوء.
قضينا حينها ساعتين، بدأت بحديث مقتضب عن حال اليوم المزري، تنقّل هو بين ستة مدن وثلاثة بلدان، وعَمل على الأقل في سبع مهن مختلفة، بعد أن تخلّى عن شهادته الجامعية، وأنا لي تجربة مشابهة، مضت حينها سبع دقائق، فتحنا بعدها دفاتر ذكريات ماضي ما قبل الحرب، استدعينا صور كثيرة، مشبعة بمشاعر مختلفة، معظمها مُفرح، وجذّاب، ولم يكن لينتهي (الحديث) لولا يوم عمل طويل، سلّم رغبتنا للنوم.
لكن ما الذي دفعنا لقضاء كل هذا الوقت في حديثنا عن الماضي؟
يصف العلماء هذه الحالة بـ “نوستالجيا” وهي كلمة يونانية تعني “ألم الشوق”، يمكن أن نسميها بـ “الحنين للماضي”، لكن لو استُخدمت بمعناها الأول، هذا يعني أنها تجعلنا متألمين، لسنا في حالة جيّدة على عكس ما شعرت به حقيقة.
حتى قرأت شيئاً مختلفاً، يبدو أكثر منطقية، يشير إلى أن الحنين إلى الماضي، يعطي شحنة إيجابية لأدمغتنا على اعتبار أنه يحرك عواطفنا.
واحد من أطباء دراسة بريطانية قال حينها: “لقد تمكنا للمرة الأولى من إثبات الفوائد الجسدية والعاطفية لأهمية العودة إلى الماضي وتذكر الأحداث الجميلة”.
نكمل صورتنا المثالية
قبل عام، نشرت على صفحتي في فيسبوك، مقطع فيديو لبرنامج سوري معروف سابقاً باسم “خبرني يا طير”، كان المقطع مؤلماً، يحكي قصّة طفلة بالكاد عمرها سنتين تاهت عن والدتها، وتمكنت عائلة سورية أخرى بريف إدلب من إيجادها، وإيوائها إلى حين عثور الأم – بفضل البرنامج – عليها.
بكت الأم كثيراً، حضنت ابنتها، تأكدت أنها بخير، وأبكت ربما ملايين المشاهدين.
أكثر من ستة آلاف تعليق على الفيديو، كثير منها وعلى غير المتوقع، يصف أيام الفيديو الذي مضى عليه ربما أكثر من 15 سنة بـ “أيام الخير”.
كيف لحادثة مؤلمة أن تحرّك عند الناس عواطف جميلة؟
يقال إنه واكتمالاً لتعريف النوستالجيا، يجب إضافة كلمة “مثالي”، أي أنه “الحنين إلى ماضي مثالي” ربما في حالتنا السورية، لم يكن بالفعل كذلك، إلا أننا رسمنا بفعل الأوجاع المتتالية، صورة مفلترة لماضينا، تضمّد بعض جروحنا المفتوحة.
الحنين إلى مقاعد الدراسة، حسناً، بالنسبة للكثيرين لم تكن الظروف بأحسن حال، ربما بسبب ضيق في الحالة المادية، التعليم ليس رائعاً، أزمات المواصلات، مستقبل غير واضح تماماً، والشباب الأكبر سناً يخططون فقط للهجرة.
هذا مثال واحد، لصورة ليست بجمال “نوستالجيانا”، ورغم ذلك اخترنا “المثالية” لتعبئة كل لحظات اليأس والإحباط والمعاناة، حتى نحافظ على ما تبقى من صحّتنا العقلية.
كسوريين ليس أمامنا خيارات كثيرة، ولا يمكننا العودة إلى الوراء بأي طريقة ممكنة، لكن لو كان لاستدعاء ذكرياتنا الجميلة، فائدة ما، فما المانع منها؟!.
تتمدد ذاكرتنا
قبل ثلاثة سنوات وبينما كنت أتجوّل في أحد أحياء مدينة غازي عنتاب التركية، أدركت تماماً الوصف الدقيق لسر مشيي لساعات طويلة مع إحساسي الغامر بالراحة، المصطلح الأنسب هو (تمدد الذاكرة السورية).
في هذه الحالة، تستدعي أنت أماكن، أزقة، حارات، شوارع، حوائط قديمة، ألوان وربما روائح من ذاكرتك، وتصنع هذه المقاربة بين أين أنت اليوم، وأين كنت سابقاً.
هذه الرحلة عبر (الزمكان)، تصبح أكثر واقعية كلّما كان التشابه بين مكانك الحالي والسابق قريباً.
وبناءً على هذه التجربة المستمرة، يمكنني القول إن واحدة من أفضل أدوات العلاج النفسي للذاكرة السورية المتداعية، هي الاقتراب من الماضي (المثالي)، شمّه، ولمسه، ومعانقته، التزوّد من طاقته، والمضي قدماً.
نبذة عن المقال
يصف هذا المقال حالة الذاكرة السورية بعد مضي سنوات على الحرب، وكيف أصبحت اليوم، وكيف تنتقي ذاكرتنا الصور الجميلة الإيجابية المحببة إلى قلوبنا بغض النظر عما إذا كانت بالفعل واقعية، ثم كيف ينعكس هذا الارتباط بالذاكرة المثالية على واقعنا اليوم.