كنت فرِحاً بأول مقال لي أنشره في الصحيفة المحلية، كان ذلك بعد رفضه من أغلب الصحف الوطنية وبعض الصحف العربية في دولٍ أخرى.

الصحيفة التي وافقت على نشر مقالي، طلبت مني مئتي ليرة أجور نشر المقال، ومع ذلك قلت في نفسي لا بأس، سأكبر يوماً ما وسيركض خلفي رؤساء التحرير لأوافق أن أكتب معهم كلمة.

بعد عدة أيام وفي الصباح الباكر، طُرق باب منزلنا بقوة حتى كاد أن يكسر قبل أن أفتح، تفاجأت حينها أنهم قوى أمن الدولة ومعهم سيارتين من قوى الشرطة، جاءوا لاعتقالي.

للأمانة، لم يضربوني عند باب البيت أمام أمي التي ركضت خلفي لتعرف ما الأمر، حتى إنهم لم يشتموا والدي ويعيدوه قسراً إلى البيت حين مسك بيد الضابط وطلب منه أن يفهم فقط، لكنهم في الحقيقة وضعوني في صندوق السيارة البيجو البيضاء، وسمعت أحدهم يقول:

هاتولي هالكلبة، وأبو القرون يلي معها.

لا أعرف بالحقيقة عمّن كانوا يقصدون، لكن صرخات أمي وتوسلات أبي في أذني حتى هذه اللحظة.

جلست في المكان الذي وضعوني فيه، هي بالحقيقة لم تكن غرفة كبيرة ومريحة، كانت عبارة عن المرحاض الذي يتغوط به العساكر…لا عليكم… كانوا يوقفوني بمحاذة الجدار وكنت أرفع يداي حين يدخل أحدهم، وكنت مطمش العينين من خلال لكمتين تلقيتهما أثناء نزولي من السيارة حين وصلنا فرع أمن الدولة.

بقيت في المرحاض لعشر ساعات تقريباً، ثم جاء أحدهم، وكان من المساجين أيضاً وقال بأنه سيشطف المرحاض، ثم بدأ بسكب الماء فوقي، وتمرير الفرشاة على وجهي، حينها علمت أن قيمة الرجل من قيمة المكان الذي يجلس فيه، لا علينا.

أخذوني بعدها لغرفة أكبر قليلاً، كان فيها بطانية عسكرية، وسطل ماء فارغ وآخر مليء بالماء، حين مددت البطانية لأجلس عليها، لم أستطع فرد جسدي على طوله بسبب صغر المكان.

بقيت في هذه الغرفة لفترة قصيرة، لا أدري عشرة أيام أو أكثر قليلاً، كانت أمنيتي أن أعرف سبب وجودي هنا، وكان حلمي وأمنيتي أن أفرد جسدي وأستلقي دون أن أتكور على نفسي، ثم جاء السجان أخيراً وقال لي: اتبعني.

أخذني إلى غرفة كبيرة، عرفت بعد ذلك أنها غرفة التحقيق، كان فيها مروحة أرضية تبعث في نفسي الهدوء لمدة دقيقة أو اثنتين قبل أن يأتي المحقق، لأن تلك الدقيقتين بالنسبة لي، كانت المتنفس الوحيد الذي أتنفس فيه الهواء النقي -نوعاً ما-.

في اليوم الأول لم يسألني المحقق أي سؤال، فقط أخذ بياناتي كاملة من العسكري الذي جاء بي، ثم ضربني العسكري بعض الضربات على وجهي وعلى جسدي، ثم أعادني إلى المنفردة.

في اليوم الثاني أخذوني للغرفة نفسها، أوقفوني جاثياً على ركبتي، مطمش العينين ومكلبش اليدين لمدة نص ساعة تقريباً، ثم بعدها سمعت العسكري يلقي التحية حين دخل أحدهم.

كانت رائحته جميلة، اخترقت أنفي رغم تراكم رائحة الرطوبة ورائحة البول والدم منذ نصف شهر تقريباً.

صاح المحقق بصوتٌ رقيق:

هل أنت جميل السايح؟

نعم سيدي.

هل أنت صحفي؟

          ها… نعم سيدي ولكن لم أمارس المهنة بعد.

كيف لم تمارس المهنة؟ ألم تنشر أي مقال حتى الآن؟

لا يا سيدي، لم أنشر أي مقال.

إذا نحن كاذبون ونتبلى على الناس؟

لا ياسيدي لا، العفو، لم أقصد، لكني فعلاً لم أنشر أي مقال حتى الآن.

ألم تنشر مقالاً في صحيفة الحياة المحلية؟

نعم سيدي، لقد قدمت لهم مقالاً لكنني لا أعرف إن تم نشره أم لا.

لماذا لا تعرف؟

سيدي لقد أتيتم بي إلى هنا بعد يومين من تقديم المقال، ولا أعلم بعدها ماذا جرى، سيدي لماذا أنا هنا؟

حينها جاءتني لكمة أشعلت شرار عيوني، وأنستني عن ماذا كنّا نتحدث، للأمانة عاد العسكري بعدها وساعدني لأقوم، لكنه ساعدني ليلكمني مرة أخرى ويعيدني طريح الأرض مع بعض الدماء من أنفي وفمي.

أمره المحقق بالهدوء وعدم ضربي، فأنا صحفي مثقف كما قال المحقق.

عاد لسؤالي:

أي يا جمال، نرجع للمقال، هل أنت جاد بما كتبته في المقال؟

يا سيدي المقال اجتماعي ليس له علاقة بالسياسة، المقال يتحدث عن بعض النصائح التي يجب على المجتمع اتخاذها ليعيش بسعادة.

وماذا عن عنوان المقال؟

هو فقط للفت النظر يا سيدي.

مممم تمام تمام، لقد لفت انتباهنا.

عمّ الصمت لدقائق، ثم قال المحقق للعسكري، خذه.

أخذني العسكري لمكاني، وبعدها بساعة تقريباً أخذني لغرفة أخرى فيها تسعة مساجين آخرين.

بقيت في مكاني الجديد لثلاث سنوات، مر عليّ الكثير من المساجين والعساكر والمحققين، حتى أصبحت في الفترة الأخيرة مهم جداً بين العساكر لدرجة أنهم أصبحوا يأخذوني لأغسل لهم المرحاض.

وأخيراً جاءني العسكري وأمرني أن أجهز نفسي ليأخذوني للمحكمة.

دخلت مكتب القاضي، كنت وحدي مع العسكري والقاضي، ومعنا كاتب القاضي الذي يجلس على يمينه.

قال القاضي:

لقد تحققنا من المقال الذي كنت تريد أن تنشره في صحيفة الحياة المحلية، لقد تأكدنا بعد التمحيص والتدقيق أن المقال لا يحتوي على أي مشاكل سياسية أو كلام ضد الوطن، ولكن يا بني يجب عليك تغيير اسم المقال.

حاضر ياسيدي ولكن اسم المقال ليس له علاقة بالسياسة!

أنت أسميته (حق التظاهر) وهذا العنوان يبعث في أنفسنا الشك يا بني.

ولكن يا سيدي عنوان مقالي هو (حق التظاهر بالحياة).

بالحياة!!!  أهذه الكلمة تابعة لعنوان المقال؟

نعم يا سيدي.

كنت أعتقد أنه اسم الصحيفة يا بني، لا عليك، نأمر بإخلاء سبيلك.

شكرا يا سيدي.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *