ما عدد السوريين الذين يفهمون معنى العدالة الانتقالية ومغزاها وضرورتها، أو يكترثون بها ويعتبرونها ضرورة يفرضها واقع الحال المزري الذي وصل إليه الشعب السوري، بعد حربٍ انتهكت كل شيء، كانوا حطبها المغمّس بالعنصرية والتعصّب وكلّ ما يهدّد الأمن والسلم المجتمعي؟ وهل يحظى الوقوف على عتبتها، كخطوة أولى في الشروع بالتأسيس لها، بالظرف المناسب؟ بل متى يكون الظرف المناسب كي يُؤسّس للبداية، من دون أن يُجهض المشروع قبل انطلاقته؟
أمام هذا السجال الذي أطلقته صحيفة الغارديان قبل أيام، بنشرها تحقيقاً مصحوباً بمشاهد صادمة عن مجزرة حيّ التضامن في دمشق، التي حصلت في شهر إبريل/ نيسان عام 2013، والتي هي واحدة من مجازر لم تكفّ عن الوقوع بحق الشعب السوري، ولم توفّر الأطراف الضالعة في الحرب القيام بها، لكنّ الأبشع من بينها تلك التي تمارسها الدولة، متمثلة بنظامها السياسي، ضدّ الشعب، أمام هذا السجال، يعود السؤال عن العدالة الانتقالية إلى الوعي، ذلك لأنّ ما يلمسه المتابع، أنّ الشعب السوري ما زال، على الرغم من كل الانهيارات التي وقعت وتقع باستمرار، محكوماً بآليات التفكير ذاتها في غالبيته، بدلاً من أن تدفعه الأزمة الجبّارة التي حلّت بحياته إلى إعادة التفكير في ما حدث، ونبش الماضي، القريب وذاك البعيد، للبحث فيه وسؤاله، للتصالح معه ووضعه في مكانه الملائم من أجل الانطلاق نحو المستقبل، وأنّنا ما زلنا بعيدين عن مفهوم العدالة وقبولها ما دام هناك من يصفقون للقتل أو يبرّرونه أو يشمتون بالضحية.
في سورية، على مدى سنوات الحرب التي بدأت بانتفاضة الشعب من أجل كرامته وحرّيته، هناك من قُتلوا بوحشية، ومن عُذّبوا، واختفوا وغُيّبوا، هناك من تعرّضوا للعنف الجنسي أو العنف القائم على النّوع الاجتماعي، وهناك من هجّوا مذعورينَ من منازلهم، واقتُلعوا من بيوتهم وماضيهم وأحلامهم، بل هناك جماعاتٌ تعرّضت للعنف والتنكيل والقتل وحرمانها حقوقها، في كل المناطق السورية، بسببِ إثنيّتها أو عرقها أو دينها أو نوعها الاجتماعي أو انتمائها السياسي. وجرى تفتيت المجتمع، غير المتماسك في الأساس، وتوزيعه على مناطق جغرافية بتغيير ديموغرافي واضح يتبع أجندات صاغتها كلّ الأطراف الضالعة في النزاع.
زادت الحرب التي استُثمر فيها بالطائفية والإثنية في جعل المسافة تطول أكثر بين السوريين وبين مجتمعٍ أكثر سلاماً وعدلاً وشمولًا للجميع
صحيحٌ أن مفهوم العدالة الانتقالية حديث، ويلزمه حدّ ما من الوعي والاهتمام، ويُعدّ من شواغل النخب المجتمعية في المجالات التي لها علاقة به، لكنّ مفهوم العدل والعدالة بشكلهما الأولي من القيم التي تتباهى المجتمعات بها، وهذا مطلب على الصعيدين، الشخصي والعام، فهل من الصعب نشر الوعي بمفهوم العدالة الانتقالية؟
تعني كلمة انتقالية أنّ المجتمع ينتقل من مرحلة إلى أخرى. وفي الواقع، لم ينتقل المجتمع السوري (أو المجتمعات السورية؟) من مرحلة إلى أخرى، بل ما زال تحت سلطة الظروف نفسها، والآليات التي تحكمه نفسها، في كلّ المناطق، فيما المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام تخضع لأنظمة حكم وإدارة تشبه ما يمارسه النظام، وكأنما هناك توأمة لتلك السلطات بعضها مع بعض، فكيف يمكن وضع أهداف والشروع بها من أجل مساعدة المجتمع في الانتقالِ من النزاع إلى السّلام المُستدام، ومن الحكم الاستبدادي إلى الدّيمقراطيّة؟ للمجتمع السوري خصوصيته بالغة التعقيد، التي أظهرت الحرب تمكّن عقدها من نسيجه، ذلكَ أن ثقافته وتاريخه وبُنيانه القانونيّ والسّياسي وتعدّده الإثنيّ والديني والطائفي وتكوينه الاجتماعي والاقتصادي، كلّها لم تشتغل الأنظمة، الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، على تنقيتها وتطويرها وشلّ قدرتها على التأثير الشديد في حياة الأفراد والجماعات، بل ترك المجتمع لاستنقاعه المديد، وزادت الحرب التي استُثمر فيها بالطائفية والإثنية في جعل المسافة تطول أكثر بين السوريين وبين مجتمعٍ أكثر سلاماً وعدلاً وشمولًا للجميع، مجتمع مأمول في أن يكون قد قطع شوطاً كبيراً في تصفية حساباته مع الماضي، بكلّ حمولاته العنفية والتقسيمية والإقصائية، قادر على إنصاف ضحاياه من كل الأطراف. وفي الواقع، ما زلنا بعيدين مسافاتٍ شاقةٍ عن تصفية حساباتنا مع الماضي البعيد، ماضٍ عمره قرون من الحروب والاقتتال والظلم والمظلومية المبنية على سردياتٍ تاريخيةٍ عملت على تطويع التاريخ، ليخدم أهدافها ويزيد من التفاف جماعاتها وتراصّهم في كتلٍ صلدة، ماضٍ بمثابة منارة وحيدة لمستقبل مضمر في نفوس الجماعات، فكيف يمكن التصالح مع ماضٍ قريب هو جزء من ذاك البعيد؟
يسعى كلّ فريقٍ لتخوين الآخر وتحميله مسؤولية الخراب، واتهامه بمحاولة قتله وإقصائه عن الوطن وأحقية العيش فيه
لم تفعل الحرب، وكذا ضنك العيش الذي يعيشه السوريون اليوم، إنْ في الداخل وفي مناطقه الموزّعة على سلطات أمر واقع، بالإضافة إلى مناطق النظام، إلى السوريين في المخيمات في دول الجوار، حيث يتراجعون أيضاً في مستويي العيش والتطور، إلى السوريين في دول اللجوء البعيدة، في جعل غالبية السوريين يتراجعون قليلاً عن متاريسهم، ويفكّرون في سنوات الجمر وذاكرة الدم التي تنهض من جديد، مع كلّ خبرٍ أو مجزرة، بل يستعيدون الهمم في شحذ نفوسهم والتمترس خلف المقولات المضلّلة، عن الأحقية والظلم، والاستهداف والقتل، إذ يسعى كلّ فريقٍ لتخوين الآخر وتحميله مسؤولية الخراب، واتهامه بمحاولة قتله وإقصائه عن الوطن وأحقية العيش فيه. وهذا ما شاهدناه بعد فضيحة مجزرة التضامن، التي لا تحتمل أي موقفٍ سياسي أو غير سياسي، بل ما تحتاج إليه موقف أخلاقي إنساني، إذ كيف لأحدٍ أن يصفّق للقتل بهذه الطريقة؟ وتشير هذه الظاهرة إلى معضلة كبيرة ومعقدة، إذ تشكّل حجر عثرة راسخ أمام تعزيز مفهوم العدالة الانتقالية، فيما لو حلم الشعب بمرحلةٍ انتقالية تجعله يتجاوز عنق الزجاجة المحشور فيه منذ بداية الحرب.
ما زلنا بعيدين عن مواجهة الأسئلة الصعبة التي يبدو كما لو أنّ المعنيين يشيحون وجوههم عنها، أسئلة البداية، الخطوة الأولى، كيف ومتى؟ وما بعد الخطوة الأولى، فيما يضمن الاقتراب من مستقبلٍ يضمن السلام المستدام وإمكانية تحقيق مجتمع شامل لكل أبنائه، مجتمع قادر على التخلّص من حمولات الماضي، وهذا لن يحدث من دون تحقيق العدالة الانتقالية، ونصرة الضحايا من كل الأطراف، ثم إصلاح القوانين وضمان نزاهتها، واعتراف المرتكب بجريمته، وخضوعه للقانون، ثم الدخول في مرحلة تعزيز القيم العليا بعدها، كالتسامح بين مكونات المجتمع. أمّا الغفران فأمر شخصي بالمطلق، ولا يمكن طلبه أو فرضه.
ما زال الوعي العام بعيداً جدّاً عن قبول فكرة العدالة الانتقالية القائمة أساساً على حماية حقوق الضحايا واحترامها
العدالة الانتقالية يلزمها جدول زمني، ويلزمها تعاقدٌ مع الوقت، إذ لا يمكن تجاوز مراحل في تدرّج تطبيقها، لأن عقبات كبيرة وراسخة في طريقها، لكن لا بدّ من تقريب مفهومها إلى أذهان الناس وضمائرهم، خصوصاً الذين ما زالوا مؤمنين بأن الحكومة هي الضامن لحياتهم، وهي التي تواجه تآمر العالم عليها، ولا بدّ أن سلوكها في الحرب سليم يسعى لحماية الشعب والوطن، بالرغم من كل البراهين على خراب الشعب والوطن، وبذلك يبرّرون القتل، وقد يمارسونه، إذا اقتضى الأمر من منظورهم هذا.
هناك محاولات جادّة من سوريين يجتمعون على أهدافٍ تصبّ في مصلحة الشعب والمستقبل، وهناك مجموعات مجتمع مدني في الواقع وفي الفضاءات الرقمية، وهناك أفرادٌ لا ينتمون إلى أي حزب أو حركة سياسية أو مؤسسة مدنية، لكنهم يعملون بشكل مستقل على نشر الوعي بين الناس، وهناك منظمات حقوقية ومدافعة عن حق الضحايا من كل الأطراف، لكن هناك لمسة مفقودة، وهي أساسية من أجل دفع المشاريع التنويرية التي لا بدّ منها كأساس لتمكين الحياة المستقبلية، لمسة قد يلتقطها اجتماع هذه المجموعات بعضها مع بعض، فيكون تأثيرُها أوسع وأكثر قدرة على إحداث الفارق في الوعي العام الذي ما زال بعيداً جدّاً عن قبول فكرة العدالة الانتقالية القائمة أساساً على حماية حقوق الضحايا واحترامها، وهذه الحماية هي الحجر الأساس في العيش المشترك وبناء المستقبل في سورية.