حراك إدلب.. ثورة على ثورة

منذ ثلاثة عشر عاماً اندلعت الثورة السورية بدايةً من درعا ودمشق ثم باقي المحافظات السورية، تطورت الأحداث وتحولت حركة المعارضة أو كما يحبون أن يُطلق عليهم (الثوار) من مظاهرات سلمية إلى حرب مسلحة بسبب عدة عوامل أهمها رغبة النظام بتسليح الثورة لاتهامها بالتطرف ومحاربته، لينقلب السحر على الساحر وتسيطر قوات المعارضة على حوالي 70 بالمئة من مساحة سوريا في بداية عام 2015 ، بدأت سلسلة الانهيارات وخسارة المناطق من يد المعارضة بعد التدخل الروسي العسكري المباشر، وبقوات جوية قلبت معادلة المعركة وميزان القوة، خسر فيها الشعب السوري آلاف القتلى من مدنيين وعسكريين، حتى انحسرت سيطرة قوى الثورة إلى مناطق في الشمال الغربي من سوريا (مركز محافظة إدلب وجزء من ريفها وجزء من ريفي حلب الغربي والشرقي وكامل الريف الشمالي).

تجمع في هذه البقعة كل السوريين الذين رفضوا البقاء تحت سلطة الأسد ونظام حكمه الأمني الجائر- أطلق عليها أهلها بالمناطق المحررة- عبر التهجير القسري لآلاف المدنيين ومقاتلي الفصائل من عموم المحافظات السورية، وبدأوا بإدارة هذه المناطق بحسب التوزع الفصائلي حتى وصلنا إلى عام 2017 عندما فرضت هيئة تحرير الشام سيطرتها شبه التامة على منطقة إدلب وريف حلب الغربي وأنشأت حكومة الإنقاذ السورية في 2 تشرين الثاني من ذات العام، وفي 12 كانون الأول وجهت إنذارًا إلى “الحكومة السورية المؤقتة” يقضي بإمهالها 72 ساعة لإغلاق مكاتبها في محافظة إدلب شمالي سوريا والخروج من المنطقة، وهكذا سيطرت على المنطقة عبر 11 وزارة وبدأت بإدارة المحرر.

أسباب الثورة الثانية

سقف الحريات الذي حلم بها السوريين -الذين باتوا خارج سلطة الأسد الابن- كان هشاً، فمع تنامي حالات الظلم في سجون أمنية هيئة تحرير الشام “الأمن العام” للسجناء الذين تتنوع أسباب اعتقالهم من انتماء لفصائل محلية أخرى أو الاتهام بالانتماء لتنظيم “داعش”، أو عمالة للنظام وروسيا أو حزب تحرير، أو سجناء رأي، توسعت حركة المعارضة الشعبية لقيادة الهيئة التي يعتليها أبو محمد الجولاني، وبدأت الشرارة مع انكشاف قضية العملاء داخل صفوف الهيئة التي امتدت منذ حزيران 2023 حتى 24 شباط 2024، اتهم فيها جهاز الأمن العام حوالي 600 عنصر من مختلف المستويات داخل الهيئة بالعمالة للتحالف الدولي، ثم إخراجهم من السجن بدعوى فساد داخل الجهاز الأمني وانتزاع اعترافات مغلوطة بالقوة، وأحيانا مقتل بعضهم تحت التعذيب- وكان لكشف مقتل المقاتل عبد القادر الحكيم من فصيل “جيش الأحرار” أثناء التحقيق معه من قبل الأمن العام ودفنه في مكان مجهول دون علم أهله ثم نبش قبره يوم 24 شباط 2024 بمثابة الحدث الذي أجج مشاعر الغضب ضد الأمن العام، وقيادة الهيئة، ودفع أهالي العسكريين والمدنيين للخروج في مظاهرات معارضة.

كما ساهم الضغط الاقتصادي الذي تمارسه الهيئة -عبر متنفذين فيها يحتكرون الواردات النفطية والسكر والحديد – وحكومة الإنقاذ على المجتمع المدني بسبب سياسة الضرائب المرتفعة على المواد الغذائية والواردات عبر معبر باب الهوى وجميع البضائع التي تعبر من شمالي حلب إلى إدلب عبر معبري الغزاوية ودير بلوط، في منطقة شبه مدمرة بقصف النظام وتعرضت للزلزال سابقاً، والتعسف في إعطاء رخص البناء وابتزاز مالكي العقارات، كذلك انعدام الثقة وغياب الأفق بحل ذاتي يمكن أن يأتي من قيادة الهيئة وحكومتها المدنية.

توسعت رقعة التظاهرات في الثورة الثانية -كما وصفها الذين خرجوا بها- وأصبحت بشكل يومي في عدة مناطق من الشمالي السوري مع زيادة مطردة في عدد المتظاهرين في أيام الجمعة، ما أعاد إلى الذاكرة تظاهرات المدنيين على مدى سنوات ضد نظام الأسد، وكيف كانت تزداد أعداد نقاط التظاهر وتزدحم كل جمعة.

ماذا أراد المتظاهرون 

ركز المتظاهرون في أغلب شعاراتهم على عدة مطالب أهمها تنحي الجولاني عن قيادة المنطقة المحررة، والمطالبة برحيله ومحاسبته، وتشكيل مجلس أعلى لقيادة المنطقة المحررة، وتشكيل مجلس شورى يمثل الشعب السوري في المحرر، وإخراج معتقلي الرأي وتبييض السجون، في بادئ الأمر صمتت الهيئة ولم تصطدم مع المظاهرات، ثم اتهمت القائمين والمحركين للحراك بأنهم من حزب التحرير وعسكريين من فصائل أخرى قاتلتها الهيئة سابقاً، وبدأت بقمع هذه المظاهرات مستخدمة عناصر من الجناح العسكري وآلياتهم ما عرضها لموجة من الانتقادات خشية تدهور الوضع أكثر فأكثر.

مع إصرار المتظاهرين ما هو مصير المحرر

استمرار سياسة القمع من قبل هيئة تحرير الشام للمتظاهرين على اختلاف انتماءاتهم زاد من عددهم في الساحات وأصبحوا يشبّهون ما يحصل في الثورة الثانية تماماً بثورة عام 2011، تختلف في شخص القائد ونظامه وشعاراته ومعتقداته، وتتوافق في إسقاط القائد الأوحد وسلطته الأمنية، وسطوته على اقتصاد البلاد وطريقة التعاطي مع المتظاهرين والاعتقال التعسفي للمخالفين.

 فمع إصرار المتظاهرين على إقالة قائد هيئة تحرير الشام “الجولاني” وإزالته من قيادة المنطقة المحررة، والرفض المطلق من قبل الهيئة وقائدها مناقشة هذا البند والاكتفاء بمناقشة باقي المطالب، وصل الحال إلى طريق مسدود رغم العديد من المبادرات المحلية، أي استمرار أحداث العنف واتساعها وتطورها بما يشبه مراحل تطور الثورة السورية الأولى.

تتدحرج كرة الثلج وتتسارع يوماً بعد الآخر، ما ينذر بكارثة حقيقية في حال استمرار سياسة القمع والوصول إلى نقطة اللا عودة (إراقة الدماء)، في ظل هدوء نسبي على الجبهات مع نظام الأسد قد يدفع الأخير لاستغلال هذه الأحداث لصالحه سياسياً أو عسكرياً.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *