جدائلهنَّ

الحساسية المفرطة في عالَم الكتابة، والقراءةِ أيضاً، تجعل من المرء شخصاً محاوراً ومستفتياً قلبَه أكثر من محاورته الآخرين؛ فهو إن امتلك الإجابة القوية برأيه، الإجابةَ التي لا تحتمل التأخُّر في الوصول إلى المتلقي، يشرع في محاورة نفسه واستحضار الجمل والأمثلة المقنِعة، يقلّبها بهدوء وكأنَّ الوقتَ مِلكُه، فيستطرد في الصمت بحثاً عن جُملٍ أخرى حَبْلى بالتعبير، تريحه بلاغياً ونحوياً قبل أن تصل المحاوِرَ الذي ينتظر الرد.

الأدهى من ذلك أنه يبدأ بترتيب الأجوبة عن الردود المحتملة من المُحاوِر الذي يكون قد انشغل بشيءٍ ما..

هذا ما كان يحصل معي في أغلب الأوقات؛ يظنني المحاورُ مقتنعاً بكلامه، ويحدُث أن يسألني، وحين لا تكون ثمة إجابة سريعة ينصرف إلى موضوع آخر، بينما يظل الذي هو أنا مع المونولوج الداخلي الذي تزداد وتيرته عندي خلال المحاضرات والحوارات، وبشكلٍ خاص عند ركوبي بالباص أراقب الناسَ من خلف الزجاج…

حقيقةً، لم أستطع الالتزام بكلام الأستاذ مدير ورشة الكتابة؛ فبالرغم من امتلاكه ثقافة جيدة وقدرة على الإقناع وحفظه الكثير من عناوين الكتب الأدبية، إلّا أنّني لم أوافقه في مسألة ضرورة لجوء الكاتب إلى السَّادية في التعامل مع شخصيات القصة القصيرة التي يبتكرها.

قد يعود الأمر إلى تلك الأُلفة التي تتشكل عندي مع بعض الشخصيات القصصية التي أصنعها، ويحدث أن أحاورها فتجيبني، نعم تجيبني خاصةً عندما أسألها عن مسار الأحداث، وقد تقنعني بتعديل بعض العبارات أو إضافة أحداث أخرى أتفاجأ أنا شخصياً بها.

لستُ شخصاً مثالياً، أعلم ذلك. 

وأعلم أيضاً أنّني بكامل قواي العقلية؛ فأنا أعرف الجهات الأربع، وخارطة الوطن الذي يتسع ويحتضن الجميع.

أفهم القسوة المفرطة، أو السادية مثلما يسمّيها الأستاذ المدير، من زاويةٍ أخرى أتحكَّم بها ولا تتحكَّم بي، كأن أُكثِر من الحديث عن صفةٍ جمالية عند شخصيةٍ ما لتمارس حضورها الكثيف ضمن الحبكة القصصية، فأجعل من ذلك أمراً يسطو على الورق الذي أمامي بتلقائية ربَّما تكون “عنيفة”.

كنتُ كثيراً ما أصعد إلى باص النقل الداخلي، دون وجهة مكانية مقصودة أو غاية، سوى الوصول إلى حالة المونولوج الداخلي الذي ينشط عند كلِّ واحدٍ منّا ويُستفَز عند ركوبه بالباص.

المضحِك الغريب أنني لم أستطع كتابة قصة مقنعة – بالنسبة لي – خلال الجلسات الثلاث للورشة الكتابية، لكنَّ الأفكار القصصية سرعان ما تداعت عليَّ عند رجوعي بهذا الباص المليء بالركاب.

هكذا هي حالتي مع الأشياء التي أرغب بها عادةً!     

تحدّثَ كثيراً عن الوعي واللاوعي في عملية الكتابة، وعن الرمز الفني، وعن أشياءَ كثيرةٍ من مفرزات الحداثة؛ منها النص السردي العابر للأجناس الأدبية، ثمَّ ختم كلامه بالحديث عن الخاتمة المفتوحة..

“كلُّ شخص منكم هو قصة قصيرة تتحرَّك، تتفاعل مع الأحداث بشكلٍ يومي، فتتوالد منها تفاصيل صغيرة جديدة. تلك التفاصيل هي ما يجب أن تنتبهوا إليها..” ذاك ما قاله في بداية الجلسة الأولى في ورشة الكتابة التي التحقتُ بها مؤخّراً؛ كسراً للرتابة وبحثاً عن تقنيات جديدة في كتابة القصة القصيرة.

أنظرُ إلى الركاب الذين يجلسون في مقاعدهم أمامي، أراقبهم بصمت، ثمَّ ألتفتُ إلى واجهات المحال التجارية والأرصفة والباعة، والحركة النشيطة للسيارات وتقاطع الألوان الكثيرة التي يمر بها الباص، يتزامن ذلك مع سماعي بعض الأحاديث الجانبية ممَّن هم أكبر مني سنّاً وقريبون من مقعدي المزدوج الذي لا يشغله غيري، كانت أحاديثهم عن شدّة برودة الجو وقدوم عاصفة ثلجية في الأيام القادمة.

يسري دفءٌ لذيذ متناغم مع الإيقاع التراتبي لحركة الباص، يدفعني نحو النوم ببطء، فأقاوم ذلك بإعادة النظر من خلف الزجاج إلى الصور الضبابية للبنايات السكنية الملوَّنة الهادئة التي نمرُّ بها. 

تأخذني عيناي إلى المقعد المجاور؛ حيث رجلٌ متوسط في العمر يعدَّل من جلسته دون أن يفتح عينيه وكأنَّه لا يعبَأ بالمواقف الكثيرة التي مرَّ بها الباص، ثم يغوص في غفوةٍ عميقة تتهدّل فيها ملامحُ وجهه ببراءةٍ واضحة.

يالَبراءة وجوهنا ونحن نيام!

ربَّما “لأنّنا نفقد التحكُّم بها” كما قال أحد الكتَّاب.

إلى جواره في أسفل المقعد، كانت هناك حقيبة قديمة عليها ثقوب كبيرة..

أخاف وأكره الثقوب؛ منذ أن كانت جدتي تحذر أبي من الثقوب التي يصنعها المسمار خلف الصورة العائلية الكبيرة..

-“الثقوب خلفَ الصورة العائلية علامة شؤم، املؤوها بالطين”.. هذا ما كانت تقوله جدتي (رحمها الله). 

يهدِّئ السائق من سرعة الباص، فأعدِّل جلستي على المقعد ببطء. 

لقد تحدَّث أيضاً عن المألوف والمُتخيَّل، وأعجبني قولُه إنَّ الحياة المألوفة أكثر مفاجأة من الحياة المتخيَّلة.

لِلأمانة، كانت طريقته محفّزة للمتدربين الذين أرادوا كتابة القصة القصيرة بأسلوب حديث، أسلوبٍ يكسر النمطية، لكنّه فاجأني وخذلني بجوابه حين سأله أحدُ المتدربين عمَّا إذا كانت هناك طريقة مقنعة لكتابة قصة قصيرة عن دور المرأة في السلام!

-المرأة لها دورٌ في اشتعال الحرب، وليس في السلام، أجاب وهو يضحك! 

ربَّما اقتنع زميلي المتدرِّب بكلام الأستاذ مدير الورشة، الذي خانه التعبير.. ربَّما.

 أمَّا أنا فلم أتقبل ذلك التوصيف، في الحد الأدنى من الناحية النفسية.

جوابُه كان تقليدياً نمطياً من شخصٍ قدَّم نفسه على أنه كاتب ينتمي إلى الحداثة!

السائق يزيد من سرعة الباص فجأةً، فتزداد حدة التركيز لديّ كما لو أنَّ تناسباً طردياً بينهما..

حين تكلم الأستاذ المحاضر عن الرمز الفني في القصة القصيرة، سألته متعمداً عن رمزٍ فني يماثل جمال المرأة السورية التي أشرفت على تعليم الأطفال النازحين بشكل تطوعي، وعن آلاف النساء اللواتي ضمدنَ جراح المكلومين في المراكز الطبية والمخيمات، وعن قوة العطاء في جدائلهنَّ التي تشبه سنابل القمح…  

 أليست هذه الرمزية غيرَ متخيَّلة؟  

ألم يقل الأستاذ مدير الورشة الكتابية؛ وليس الإسمنتية، أنَّ الحياة المألوفة أكثر مفاجأة من الحياة المتخيَّلة؟..لماذا ينسى ما قاله لنا!   

هممتُ أن أزيدَه…لكنه تغافل عن إجابتي ببراعة؛ لأنني – حسب تصوره ربَّما- متدرِّب، بينما هو الأستاذ المحاضر الذي يسكب المعلومات في رؤوسنا وعلينا أن نقبل بها فقط دون مناقشة. 

يجيب الأستاذ المحاضر عن مجموعة أسئلة في الزاوية المقابلة لطاولتي، ثم يطفئ أضواء القاعة ليرينا على شاشة العرض الكبيرة بعضاً من الأعمال الأدبية المترجمة التي يجب أن نقرأها – بل نحاكيها بحسب رأيه- كي نستطيع إنتاج نصوصٍ عابرة للتصنيف الأدبي؛ بمعنى أدق: لا هُويَّة لها.

ضاعت إجابتي في أعماق نفسي مع دخول محاضر آخر تحدَّث بكلامٍ يشبه كلامَ المحاضر الأول، أو ربَّما كان مختلفاً بعض الشيء. لم أستطع كبح شرودي بالإجابة التي ضاعت خلال استرساله بالكلام عن تقنية استخدام الضمائر في الكتابة القصصية، وتعمية النص الأدبي وبعثرته.

(انتهت)

——————————–

هامش يصعد إلى المتن: 

[يأخذ السلام الحقيقي دورَه بشكل فاعل ومؤثر عن طريق المشاركة الكاملة للمرأة؛ إذ أنَّ ثقافة السلام والتعايش تنطلق من تفعيل الدور الحقيقي للمرأة القادرة على صناعة السلام المجتمعي، بدءاً من تأثيرها الإيجابي في الأسرة وتربية أبنائها على المحبة والتسامح ونبذ العنف، بالإضافة إلى تحذيرها لهم من أفكار التطرُّف وإلغاء الآخر.

لكن ذلك الدور المهم للمرأة في صناعة السلام يبقى قاصراً مالم تكن المرأة مؤهلة ومدرَّبة ومثقفة تثقيفاً جيداً على المطالبة بحقوقها غير المنفصلة عن حقوق الإنسان المتعارف عليها عالمياً].

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *