تلاطم
لا أدري كيف تحرَّرتُ من جسدي وتعبهِ، وأمسكْتُ بطفليَّ كي يشعرا بي لعلَّني أمنحهم بعض الأمان رغم افتقاري له.
كلُّ أفلام أسماك القرش التي شاهدتها سابقًا مرَّت أمام عينيَّ وقتها، لكن ليس لديَّ بقايا مركبٍ ما لأستغلَّ ما عليه كما يفعلون عادةً في السينما وأطعن بعض الأسماك المهاجمة، ثمَّ استدركتُ في محاولةٍ لتهدئة هلعي وهمستُ لنفسي أنَّه قد لا تتواجد في هذه البقعة التائهة أسماك قرش بالأصل، وربَّما يبتلعنا حوتٌ فيكون أسهل من أن تنهشنا أشياءٌ أخرى وربَّما نلبثُ في بطنه ردحًا، لكن كيف سننجو وقتها؟
هل صحيحٌ أنَّنا نستطيع البقاءَ على قيد الحياة في بطن الحوت؟ آهٍ يا يونس..
كم من الأفكار المرعبة تضاربت في رأسي فلم تزدني إلا خوفًا وتمسُّكًا بأطفالي، أين ذهب البقية؛ أين جرفهم التيار؟
لا أثر لأحدٍ على هذا الأزرق سوانا، وبعض البالونات الّتي تحتوي أجهزةً خلويةً وأوراقًا ربَّما، لا أعلم أين تلاشى أصحابها..
كنتُ قد ربطتُ حبلًا حولي و طفليَّ تحسُّبًا لمثلِ هذا الموقف، فمنذ معركتي مع والدهما لاحتضانهم حين الانفصال وأنا لديَّ فوبيا الفقدان، الحبل الذي يربطني بهما هو حبلي السِّرّيِّ الّذي يبقيني على قيد الحياة وعلى قيد الأمل.
“ماما بردان”
يا الله يرتعد ابني لا أدري من البرد أم من الخوف، هل سأفقدهُ هنا؟ ماذا لو اضّطررت لإفلاته إن مات وحاولت السّباحة بطفلي الآخر؟
تنهمر دموعي دون أدنى جهد مني وأنا أتقاذف بين كم الاحتمالات التي لم أتخيل يوما أنني سأخوضها، ثم تتدخل الرغبة في البقاء إلى أطول مدة ممكنة فأقرر أن عليَّ التَّوقف عن البكاء والمحافظة على مستوى الماء في جسمي كي أكون قادرةً على النَّجاة بأطفالي إن لاح بصيصٌ ما..
ليته علَّمهما السِّباحة.. ولكن كيف وفي أيِّ اتّجاه سنسبحُ عندها؟
“بعد قليلٍ يلمحنا خفر السّواحل وينتشلوننا وسندخل مركزًا صحيَّا دافئًا وسيقدِّمون لنا الطَّعام والماء وسنحكي لهم كيف كنَّا أقوياءَ وقاومنا حتَّى وصلنا هنا”.
أخبرُهما بهذا وأنا أحاول أن أقنع نفسي أيضًا معَ إنَّنا لم نبحر طويلًا قبل أن يبدأ “البلم” بارتشاف ماء البحر دون الاكتراث لعددنا الكبير ودون مراعاةٍ لرعبنا وتخبُّطنا، هكذا حتى ثمل وتقيَّأنا بلا قيمةٍ تُذكر رغم تشبُّثِنا المستميتِ به.. ليتني تريَّثْتُ أكثر لبضعِ سنوات حتَّى أجمع مبلغًا أكبرَ فأهاجرُ بهما بوسيلةٍ أكثر أمانًا، وما الضَّيرُ في أنْ يكبرا أكثر؟ لماذا استعجلتُ في أحلامي وتخيُّلاتي بحياةٍ كريمةٍ وبأرضٍ تحترمُ الإنسان؟
أجلد نفسي ولا يهدأ لي بال وأنا أراقب شفاههم المرتخية المزرقَّة وأعينهم الغزلانية الّتي تكادُ أن تغفو، وأطلبُ منهما السَّماح بدموع منهمرة لم تعد تعرف الانحباس أكثر.. سأخلع سترة النجاة إذا حدث لهما شيءٌ وأغيب معهما، هذا قراري.
قبل أن يبدأ القارب بالتّسريب كنَّا نخبر بعضنا الآخر عن أحلامنا وآمالنا، الشَّاب الَّذي كان ملاصقًا لنا أخبرنا أنَّه سيحاول أن ينام مطوّلًا حدَّ التُّخمة بعد أن يسدِّد ما عليهِ، فقد استدان له أهلٌه نصفَ المبلغِ بينما كان قد عمل بكدٍّ وأمَّن النصف الأول، كان هدفه الأوَّل النَّوم براحةٍ وبعمقٍ، تذكَّرته الآن دون غيره لأنِّي أريد أن أنام؛ رغبة كسولة ملحَّة تسحبني نحو النّوم وأقاومها بكلِّ جوارحي، تشبه تلك الّتي تجتاحُ النساءَ عند الولادة في خضمِّ الألم وفي خضمِّ الصّراع، تأتي تلك الحاجة القوية ملوِّحةً بسلامٍ هادئٍ وبكلِّ إغواءٍ تحاول إدخالهنَّ عالمًا آخر لبرهةٍ فقط، فتأتي الإسعافات لتوقظهنَّ وترغمهنَّ على إكمال الرحلة…
الآن أيضًا أقاوم رغبتي في النّوم من أجل طفليَّ الَّذَين ناما فعلًا، كنت أقبّل جبهتيهما وأستذكر طفولتهما الشّاقة والرّائعة بمشقّتها من سهرٍ وإرضاعٍ وحُمّى، وكلماتهما الأولى وتعلُّقهما بي وتعلُّقي الأكبر بهما، كنت أستغرقُ في دوَّامةِ عشقي لهما حين أفلتا منّي و راحا يركضان على وجه الماء لا أدري كيف! أخيرًا أرسل لنا الله المعجزة الّتي انتظرتها، طفلاي يستطيعان السَّير على الماء كنبيّين نقيّين ويمدّان أيديهما إليَّ أنْ تعالي، لكنّني لا أستطيع؛ ربَّما بي ما يكفي من الذّنب ليمنع ارتقائي معكما فوق الماء امضيا واتركاني، يستمرّان في مناداتي، شيئًا فشيئًا تخفُّ مقاومتي، أرفع يدي.. جسدي الثقيل يحاول الاندفاع نحوهما، أطرافي الباردة تعيقني، لا أستطيع مجاراتهما فيعتصر قلبي..
ثمَّ بلمحةٍ أخيرةٍ يزول الثِّقل كأنَّني أتممتُ ولادتي ويزول النُّعاس وأنهضُ من داخل الماء وأطفو واقفة مع طفليَّ وأتمكن مثلهما من السَّير على الماء.