الوعي السياسي الخارجي: نحو مشاركة سياسية فاعلة للشباب السوري
يشهد العالم تحولات سياسية خارجية متسارعة، تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية بشكلٍ مُعقد. ولعل المتضرر الأكبر من هذه التحولات هو الشعب التي تمر بلدانه بظروف استثنائية، كالشعب السوري الذي وجد نفسه في قلب إعصار سياسي دولي مُركّب. وانطلاقًا من هذه المُعطيات، تُطرح فرضية أساسية مفادها: أنّ غياب الوعي السياسي الخارجي لدى الشباب السوري يُشكّل عائقًا رئيسيًا أمام مشاركتهم السياسية الفاعلة، ويُحجم من قدرتهم على التأثير في رسم مستقبل بلادهم.
مقدمة:
يُشبه عالمُنا اليوم رقعة شطرنج مُعقدة، تتحرك عليها قوى دولية وإقليمية بوتيرة مُتسارعة، وتتقاطع فيها المصالح وتتنافر في مشهدٍ سياسٍ خارجيٍ يتسمُ بالتغيّر المُستمر. وفي خضم هذه التحولات الدوليّة الدقيقة، تجد الشعوب نفسها أمام تحدياتٍ وجوديّة، لا سيما تلك التي تمر بلدانها بظروفٍ استثنائية كالشعب السوري. فقد بات من الواضح أن غياب الوعي السياسي الخارجي لدى الشباب السوري يُشكّل عائقًا رئيسيًا أمام مشاركتهم السياسية الفاعلة، ويُحجم من قدرتهم على التأثير في رسم مستقبل بلادهم، ويجعلهم عرضة لتيارات شديدة من التجاذبات الدوليّة المُتقلبة.
مفهوم الوعي السياسي الخارجي وأهميته
وتتجلى أهمية الوعي السياسي الخارجي في الحالة السورية على وجه الخصوص، كونها ساحة تتصارع فيها أطرافٌ دوليّةٌ عديدة، لكلٍ منها أجندته ومصالحه التي لا تتوافق بالضرورة مع تطلعات الشعب السوري، فمن دون فهمٍ عميقٍ لسياسات هذه الدول، وتحركاتها، ودوافعها الحقيقية، سيبقى الشباب السوري عاجزًا عن بلورة رؤيةٍ سياسيةٍ واضحةٍ لمستقبل بلاده، والمشاركة بفاعلية في صنع ذلك المستقبل.
لا يُمكن الحديث عن مشاركة سياسية فاعلة، دون التمتع بِوَعيٍ سياسيٍ ناضج، ويمتدّ هذا الوعي ليشمل البُعد الخارجي، ليُصبح بمثابة البوصلة التي تُرشد الشباب في غابة التحولات الدولية المُعقدة. ويمكن تعريف الوعي السياسي الخارجي بأنه “المعرفة العامة والفهم العميق لِلتفاعلات الدولية، وسياسات الدول الخارجية، وتشابك المصالح الدولية وتناقضاتها”. إنه ليس مجرد الإلمام بأسماء الدول وقادتها، بل يتعداه ليصل إلى فهم الدوافع والمصالح الخفية التي تُحرك سياسات هذه الدول، وكيفية تأثيرها على بلدان أخرى كـسوريا. ففهم تأثير قرار مجلس الأمن رقم 2254 على مستقبل سوريا، يتطلّب من الشباب امتلاك وعي سياسي خارجي يُمكّنهم من تحليل بنود القرار وتحديد مدى إمكانية تطبيقه، ومواقف الدول الداعمة والمُعارضة.
ولذا، يُمكن للشباب الذين لديهم وعيًا سياسيًا خارجيًا فهم طبيعة الأحداث وتأثيرها على بلدهم بِوُضوحٍ، وإدراك تبعات القرارات الدولية والتحركات السياسية على الواقع السوري. كما يُساعدهم هذا الوعي على تحليل مواقف الأطراف الدولية الفاعلة بقراءةٍ متعمقةٍ تتجاوز الخطابات الرسمية، وتُدرك دوافعها ومصالحها الحقيقية في سوريا، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يمتدّ ليُساعد الشباب على تحديد الفرص والتحديات على الساحة الدولية، واستغلال الأولى ومواجهة الثانية بِفاعلية، ويُصبح بإمكانهم بِفضل هذا الوعي بلورة رؤية سياسية واقعية وفعّالة، تنطلق من فهمٍ عميقٍ لِلمُعطيات الدولية والتفاعلات الإقليمية.
دروس من حركات التحرر
لم يكن الوعي السياسي الخارجي يومًا مجرد فكرة نظرية، بل كان أداةً فعّالةً بِيَدِ شعوبٍ ناضلت من أجل حقوقها وحريتها، واستطاعت أن تُغيّر واقعها بِفضل فهمها لِلسياسة الدولية والتحولات العالمية، وإليكم نموذجين مُلهمين:
لم يَكُن نضال الشعب في جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري معركةً محليةً فحسب، بل تحوّل إلى قضية رأي عام دولي بِفضل الوعي السياسي الخارجي الذي تمتّع به قادة هذه الحركة وعلى رأسهم نيلسون مانديلا، فقد أدرك هؤلاء القادة أهمية كسب الدعم الدولي وعزل النظام العنصري سياسيًا واقتصاديًا، وعملوا على فضح ممارسات النظام العنصري أمام العالم، وحشد التأييد الدولي لِقضيتهم من خلال المشاركة في المحافل الدولية، وتكوين لوبيات ضغط فعّالة. ونتيجة لِهذه الجهود، فرض المجتمع الدولي عقوباتٍ اقتصادية وثقافية على جنوب إفريقيا، مما ساهم في إضعاف النظام العنصري ودفعه في النهاية إلى التفاوض والتنازل عن سلطته.
تمتّع قادة حركة الاستقلال الهندية، وعلى رأسهم المهاتما غاندي، بِبُعد نظرٍ سياسيٍ فذٍ، حيث أدركوا بأنّ تحقيق الاستقلال لا يعتمد على النضال الداخلي فحسب، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بِالتحولات الدولية، واستغلّ غاندي وغيره من القادة الهنود اندلاع الحرب العالمية الثانية لِمُمارسة الضغط على بريطانيا، وذلك بِرفضهم دعم المجهود الحربي البريطاني إلا بعد الاعتراف بِحق الهند في الحكم الذاتي. كما استفادت الحركة من مُناخ ما بعد الحرب العالمية، وتنامي التيارات الداعمة لِحركات التحرر من الاستعمار، لِكسب تأييد دوليٍ واسعٍ أجبر بريطانيا في النهاية على الرضوخ لِمطلب الهند بِالاستقلال. من خلال فهم موازين القوى الدولية واستغلال الظروف المُحيطة، استطاع الشعب في كل من جنوب افريقيا والهند من تحقيق أهدافهما التي بدت في وقتٍ ما مستحيلة.
الواقع السوري: ضياعٌ في متاهة التدويل
تُعدّ الأزمة السورية من أكثر الأزمات تعقيدًا في التاريخ الحديث، وذلك لِتداخل العوامل الداخلية مع التدخلات الخارجية بشكلٍ جعل من سوريا ساحةً لِصراع المصالح الدولية والإقليمية، فقد تدخّلت في الشأن السوري قوىً دولية وإقليمية عديدة، لكلٍ منها أهدافها ومصالحها التي لا تتوافق مع بعضها البعض، مما أدى إلى تأجيج الصراع وإطالة أمده.
وأمام هذا الواقع المُعقد، يَظهر جليًا غياب الوعي السياسي الخارجي لدى شريحةٍ واسعةٍ من الشباب السوري، الأمر الذي يُفاقم من معاناتهم ويحدّ من قدرتهم على التأثير في مستقبل بلادهم. فيُلاحظ انغلاق قطاعٍ لا يُستهان به من هؤلاء الشباب على أنفسهم، وتركيزهم على القضايا الداخلية بشكلٍ شبه حصري، مما يُفقدهم القدرة على فهم التأثيرات الخارجية على بلدهم ورؤية الصورة الكاملة للأزمة السورية، وإدراك تداخل البُعد الدولي مع القضايا الداخلية. كما يُعاني الكثير منهم من صعوبة الحصول على معلوماتٍ دقيقةٍ وموثوقةٍ حول الأحداث الدولية وتأثيرها على سوريا، مما يجعلهم عرضةً لِلتضليل والتأثير بِوسائل الإعلام المُسيّسة والمُوجّهة التي تُساهم في تضليل الرأي العام من خلال بثّ الدعاية والترويج لِرؤيةٍ أحادية للأحداث.
نحو تعزيز الوعي السياسي الخارجي لدى الشباب السوري
لا يكفي التنويه إلى أهمية الوعي السياسي الخارجي دون العمل على تَعزيزِه وبناءِهِ لدى الشباب السوري، وذلك من خلال تضافر جهود عدة أطراف وتبنّي مقاربة تكسر حاجز اللامبالاة وتُشجع على النقد والتحليل بعيدًا عن نظريات المؤامرة التي تُعيق الفهم العقلاني للأحداث.
وتُعتبر المؤسسات التعليمية خطّ الدفاع الأول ضدّ الجهل والانغلاق، فعليها تَحَمّل مسؤوليتها في تضمين مفاهيم الوعي السياسي الخارجي ضمن مناهجها الدراسية بِشكلٍ مُبسّط وسلس، انطلاقاً من المراحل التعليمية المُبكرة. كما يجب أن تُشجع الجامعات على إعداد كراسات علمية متخصّصة في مجال العلاقات الدولية، وتنظيم ندواتٍ ومُحاضراتٍ تُبصّر الشباب بِالتحولات الدولية وَتأثيرها على الواقع السوري.
ولا تَقِلّ أهمية وسائل الإعلام عن دور المؤسسات التعليمية، فهي قادرة على نشر الوعي بِشكلٍ واسع وسريع، لذا، يَجب على وسائل الإعلام المُستقلة أن تُدرك حجم المسؤولية المُلقاة على عاتقها، وتُقدّم محتوىً موضوعيًا وَمحايدًا حول القضايا الدولية، بعيدًا عن التحريض أو التضليل. وَمن شأن البرامج التلفزيونية والوثائقية التي تُسلّط الضوء على التجارب الدولية وَكيفيّة إدارة الصراعات أن تُساهم في توعية الشباب وَتزويدهم بِأدواتٍ فكريةٍ مُهمّة.
وَتُلعب منظمات المجتمع المدني دورًا مِحوريًا في ملء الفراغ الذي تتركه المؤسسات الرسمية، فعليها إطلاق برامج توعوية وَتثقيفية تُخاطب الشباب بِأسلوبٍ جاذبٍ، وتُعرّفهم على مفاهيم العلاقات الدولية، وَسياسات الدول الكبرى، وَتأثيرها على منطقتنا العربية. مثلًا، يُمكن لِمنظّمة غير حكومية أن تُطلق برنامجًا يَهدف إلى تدريب الشباب على مهارات مُحاكاة مُنظّمات الأمم المُتحدة (Model UN) لِتعريفهم بِكيفيّة عمل المنظّمات الدولية وَدورها في حلّ الصراعات.
ويُمكن لِهذه المنظمات الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى في مجال النضال السلمي، ونقلها إلى الشباب السوري بِهدف توعيتهم بِحقوقهم وَأساليب الدفاع عنها بِشكلٍ سلميٍ وَحضاري . وَتجدر الإشارة إلى أهمية تركيز نشاطات هذه المنظمات على التحليل العلمي وَالمنطقي للأحداث وَالتفاعلات الدولية، بعيدًا عن نظريات المؤامرة التي لا تُفضي إلى شيءٍ سوى إلى مزيدٍ من الضياع وَالتخبط.
ختامًا، يُشكّل الوعي السياسي الخارجي حجر الزاوية في تمكين الشباب السوري من فهم تعقيدات الأزمة وَالتأثير في مسارها. وَمن خلال تضافر جهود المؤسسات التعليمية وَالإعلامية وَمنظّمات المجتمع المدني، يُمكن بناء جيلٍ واعٍ قادرٍ على استعادة زمام المُبادرة وَالمشاركة بِفاعليةٍ في صياغة مستقبل بلادهم.