المواطنة كأساس لبناء دولة مدنية في سوريا

مصعب الجبان

مقالة رأي
الكاتب : مصعب الجبان

المواطنة كأساس لبناء دولة مدنية في سوريا

في ظل التحولات العميقة التي تشهدها سوريا، يبقى مفهوم المواطنة أحد المفاتيح الأساسية لبناء دولة مدنية قادرة على استعادة الاستقرار وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالمواطنة ليست مجرد علاقة قانونية بين الفرد والدولة، بل هي حالة اجتماعية وثقافية تعكس انتماء الفرد إلى المجتمع. تشمل الحقوق والواجبات دون تمييز أو إقصاء، بناء  الانتماءات العرقية أو الدينية و الاجتماعية، فضلاً عن الشعور بالانتماء والولاء للدولة.

كانت سوريا موطناً لمجموعات إثنية ودينية متنوعة، من عرب وأكراد وتركمان، ومسلمين ومسيحيين، وغيرهم. ولكن منذ الاستقلال، تعرضت فكرة المواطنة إلى التهميش لصالح الهويات الفرعية والطائفية، مما أدى إلى تصدع النسيج الاجتماعي واستغلال هذا التنوع لأغراض سياسية.

ولعل الاستبداد السياسي هو من أبرز العوائق التي تحول دون تحقيق المواطنة الحقيقية في سوريا. فالنظام السياسي في سوريا والذي استمر لعقود، اعتمد على سياسات القمع والتمييز، ما أدى إلى تفاقم الانقسامات المجتمعية. ومن ثم، أصبحت الطائفية وسيلة للسيطرة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي نتج عنه تهميش حقوق الأفراد كمواطنين، وتحويلهم إلى “اتباع” ضمن بنى طائفية مغلقة. إن الانتقال من “الطائفية السياسية” إلى “المواطنة” ضرورة ملحة لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا. فالمواطنة الحقيقية تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة أمام القانون، حيث تُعامل جميع الفئات بموجب قانون واحد يضمن حقوقهم ويحدد واجباتهم.

تعد الدولة المدنية أحد النماذج التي تستند إلى فكرة “المواطنة” كأساس لنظام الحكم. والدولة المدنية ليست “دولة علمانية” بالمعنى الذي يلغي الدين من الحياة العامة، بل هي دولة تحترم التعددية الدينية والثقافية، فتقوم الدولة على حكم القانون، وليس حكم الأشخاص، أي أن جميع الأفراد، بمن فيهم من  في السلطة، يخضعون للقانون.

و”المجتمع المدني” مصطلح شاع استعماله في الأدبيات الغربية مع بدايات عصر الأنوار، وذلك للتميز بين المؤسسات الحكومية والمؤسسات الأهلية، بيد أن غياب المصطلح من الأدبيات التراثية وارتباطه بالأدبيات الغربية لا يعني بأي حال غياب الظاهرة عن المجتمعات العربية والإسلامية، بل يمكننا القول: إن المؤسسات التي حكمت المجتمعات العربية والإسلامية تاريخياً، كانت في غالبها مؤسسات مجتمع مدني لا مؤسسات دولة، فالمؤسسات التعليمية والنقابات الحرفية والمؤسسات التجارية، ارتبطت من حيث التأسيس والتمويل بالمجتمع المدني، واعتمدت على مؤسسة الوقف. والتشريعات العامة بما في ذلك نظام الضرائب أو زكاة المال مثلاً، ارتبطت بالشريعة الإسلامية، وانحصرت مهام الدولة عبر العصور بمسائل العلاقات الخارجية وقضايا الأمن العام وحماية الحدود.

لقد أدى دخول مؤسسات الدولة الحديثة والقانون المركزي إلى المجتمعات الإسلامية بعد نهاية الدولة العثمانية وخلال فترة الاستعمار الأوروبي إلى إحداث تغييرات جذرية في بنية السلطة، ففي سوريا مثلا، أدى تبني نموذج الدولة السوفيتية ذات الحزب الواحد والسلطة المركزية عقب الاستقلال، إلى القضاء على استقلالية مؤسسات المجتمع المدني السوري.

وفي السياق السوري وما يمر به من أزمات عميقة تبرز ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كخطوة أساسية. ولا يمكن أن يتم ذلك دون معالجة آثار الانتهاكات التي وقعت خلال السنوات الماضية. إن تحقيق العدالة والمساءلة يعدان جزءا لا يتجزأ من بناء الثقة بين المواطنين والدولة، ويؤسسان لمرحلة جديدة من المواطنة التي تستند إلى الاحترام المتبادل والمساواة.

كما يجب أن يلعب التعليم دوره الحيوي في بناء وتعزيز مفهوم المواطنة. فالمناهج التعليمية يجب أن تعزز قيم المواطنة، وتغرس في نفوس الطلاب مفاهيم المساواة والعدالة. مما يساهم في تشكيل الوعي المجتمعي. ومن هذا المنطلق لابد من إصلاح النظام التعليمي في سوريا ليكون أكثر شمولاً وتنوعاً، بحيث يتيح لكل فرد الفرصة للتعرف على تاريخ وثقافة الآخرين، ويدرك أهمية المواطنة كعامل موحد للمجتمع.

في سياق ذلك يعتبر المجتمع المدني الجسر الذي يربط بين المواطنين والدولة، ويسهم في تعزيز الحوار والتعاون بين الفئات المختلفة. والمجتمع المدني يمكنه أن يلعب دوراً في تقديم الخدمات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه ممارسة دور رقابي على أداء الحكومة. ولابد أن يأخذ المجتمع المدني دوراً فعالاً في بناء مؤسسات قوية تقوم على الشفافية والمساءلة، وهو ما يعد جزءًا أساسيًا من تحقيق المواطنة الفعالة.

“إن المواطنة ليست مجرد شعار يُرفع، بل هي منظومة من القيم والممارسات التي يجب أن تنعكس في السياسات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية”

والطريق إلى المواطنة في سوريا نعترضه عقبات كثيرة، فالاحتقان الاجتماعي، التمييز العرقي والطائفي، والفساد والمحسوبية، وغياب الأمن والاستقرار، والهجرة والنزوح. كلها أسباب تعيق تحقيق المواطنة. ولا مفر من العمل على معالجة هذه القضايا من خلال سياسات شاملة، تعزز التفاهم والتسامح بين مختلف مكونات المجتمع السوري.

من المهم أن ندرك أن الإصلاح في أي من المسارات التربوية والثقافية والقانونية والإدارية، يتطلب قيام قوة اجتماعية تتبنى أطروحات الإصلاح، وتسعى جاهدة إلى تحقيقه، كما يتطلب توفير مساحة كافية للحركة ضمن كل من المسارات الإصلاحية المشار إليها آنفاً. وبعبارة أخرى، ثمة حاجة إلى تمكين مريدي الإصلاح من إحداث تغييرات في مجالات التربية، والتعليم والإدارة والاقتصاد. والتمكين هنا يعني نقل النفوذ السياسي إلى القوة الاجتماعية التي تمتلك إرادة الإصلاح كما تملك المصلحة في تحقيقه.

إن بناء دولة مدنية قائمة على المواطنة في سوريا يتطلب جهدا جماعيا يشمل إصلاح المؤسسات، وتعزيز التعليم، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتفعيل دور المجتمع المدني. وإن تحقيق المواطنة يتطلب جهودًا مشتركة من جميع الفاعلين في المجتمع، سواء كانوا حكومات أو منظمات مجتمع مدني أو مواطنين عاديين. لا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا من خلال إرادة سياسية صادقة، ورؤية مجتمعية تتجاوز المصالح الفئوية إلى مصالح وطنية جامعة. وإذا ما تحقق هذا الهدف، فإن سوريا ستكون قادرة على تجاوز أزماتها، والانطلاق نحو مستقبل يسوده السلام والاستقرار والازدهار. إن المواطنة ليست مجرد مفهوم، بل هي ضرورة حتمية لبناء مستقبل أفضل لسوريا وشعبها العظيم.

منظمة مارس، هي منظمة حيادية توفر مساحة حرة للتعبير عن الأفكار والآراء ،نود التأكيد بأن المعلومات والآراء والأفكار الواردة في هذه المقالة تعبر عن رأي قائلها، ولا تعكس بالضرورة مواقف أو سياسات المنظمة ومنصاتها.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *