اللطف والبلاء

هذه الليلةُ أحلكُ من سوادِ الفحمِ، تقترب (ميليشيات) الطغاةِ من مناطقنا إثرَ سقوط المناطق الشَّرقيَّة، وفي الثّلثِ الأخير من الليل هجم صاروخٌ لَعِينٌ علينا.

رنَّ منبِّهُ الهاتف لأنهضَ قُبيل صلاةِ الفجْرِ، وأَرَانِي أَطيرُ مَعَ الهَاتِفِ بلا تَوازنٍ؛ كَرَجُل فضاءٍ، أحَاوِلُ ضَغْطَ زرِّ الهَاتِفِ لإيقاف المنبِّه ولا أعلمُ لمَ سأوقفُ المنبِّه أصلاً!

منزلُنَا آخر أيَّام الحملةِ على القطّاعِ الأوسطِ في غوطةِ الشَّامِ الشّرقيَّةِ أصبح ملاذاً لأَهلِنَا؛ ووفدَ إلينا الضّيوف، وامتلأت الدَّار بالشّيوخ والنِّساء والأطفالِ.

نحن لاجئون إلى البناءِ الذي نقطنُ فيه الآن؛ وصاحب البناء الأصليّ وَضَعَ مَتَاعَهُ في القبو؛ لأنَّه الأكثر أمنًا بزعمِهِ، ومع اشتدادِ القصفِ صارَ القبوُ مأوانا جميعًا.

ليس القصفُ كعادتهِ، يسيطرُ الرّعب على النَّاسِ، البراميلُ الملقاةُ على كواهلنا كالجبال، وتلعبُ طائرات الإجرام في سمائِنَا كَلَهْوِ الأطفالِ _في البلاد الآمنةِ_ بالطَّائِرَاتِ الورقيَّةِ، وحين تهوي القذيفةُ يَغُصُّ قلبكَ، وذو الحظِّ العظيم من لا يُصابُ بشّظيَّةٍ تقتله أو تبترُ أطرافه.

يخطئُ واحدنا بأيّام الأسبوعِ حين يُسأل ما هو اليوم؟! لا نفرِّق بين ليلٍ أو نَهارٍ، الظّرفُ أقْسَى من تذَكّر يومٍ أو شهرٍ، والتَّأريخ _عندنا_ هو مواعيدُ استشهاد الأحبابِ.

تصاعد القصف للتوّ، ولا بدَّ للمنهارين أن يناموا قليلاً، قبل بدء القصفِ الجديد، مع صباح اليوم التَّالي انفجر الصّاروخ في الملجأ، صرت أركض كنائمٍ في حلُمه لا يستطيعُ الوصولَ لمبتغاه، تأكلُ النَّار الخشبَ من حولي، والصّرخاتِ تعلو، ولم أكن أدركُ ما الذي يجري، (أتراه سقط البناءُ فوقنا فعلِقنا؟! أم أنَّني نائمٌ، وأهلوسُ في حلمٍ عصيبٍ؟!)، أُحدِّثُ نفسي.

تُحَاصِرُنَا أشياءُ صاحب البناءِ ونيران الصَّاروخ، كظبيٍّ بين السّباع، وتدقُّ في أذني صرخات النِّساء والأطفال، أدور مثل (البُلْبُلِ) محتاراً ماذا أصنع؟

تربكني انفجاراتٌ متتاليةٌ وشّظايا تموجُ أمامي كالفراشِ المبثوثِ، لا قبسَ أستهدي به إلا ضوء النَّار المحرقة، فإنْ نظرتُ إليها لا أَرَى ما دونها، وإن نظرتُ إلى مَا دونها زاغ بصري.

الأفكارُ تأخذني شرقاً وغرباً، احتمال النَّجاةِ صفر بالمئَةِ، والنَّار تَصْرَخُ: (هل من مزيد)، الصَّاروخ يحوي قنابلاً وهي تنفجرُ بيننا؛ كانفجارِ الغضب في شعبٍ مظلومٍ ثائرٍ، وألوانُ الانفجار كالألعاب النَّاريّة في احتفالٍ صاخبٍ.

أنظرُ فِيمَنْ حولي لا أرى وجهًا سليمًا، الوجوه تجعَّدتْ، الرؤوس شَابَت حتَّى الأطفال؛ إمَّا لانعكاس ضوء النَّار على الجباهِ مع الأخيلةِ، أو لهولِ ما نحنُ فيهِ، تغيّظُ النَّار يشبهُ صوتَ رجلٍ ينهم بشراهة في سنين الحصار السحيقة.

لمْ أعلمْ عددَ الموتى إلى الآن، تمكّن عمِّي _والدَ زوجتي_ بعد لأْيٍّ من الوصولِ إلى درجِ الملجأِ، وبلغَ أعلاهُ ولمْ يستطعْ فتحَ البابِ الحديديِّ الذي أُحْكِمَ إغلاقُه علينا؛ بسبب ضغط الصَّاروخ، فانضغط وبات كالجسد الواحد.

أصبحنا في سجنٍ يَحْرِقُ المعتقلين، يحتدمُ الوقودُ وتلهبُ النّيران، وبدأتُ أبصرُ شيئًا ممَّا حَوْلِيْ، ومن رحمة اللهِ بي أنَّني ساهمتُ في تقسيمِ القبوِ فصرتُ أتذكَّرُ الطرقاتِ التي رسمتُهَا بمساعدةِ عمِّي، وأمشي حسبَ ذاكرَتِي لَا بَصَرِيْ.

أمضِي فوقَ النَّارِ ولَا أَحتَرِقُ، أَوْ أنّني لا أَشْعُرُ بالألم، وصلْتُ إلى درجِ البناءِ؛ فرأيته مكتظَّاً بقطعٍ من النَّار، وهي تشبهُ قطع البركان المشتعل، يخلع عمّي البابَ بعد محاولاتٍ كثيرة؛ وأَغْتَبِطُهُ لاستنشاقهِ أوَّلَ نَسْمَةِ (أوكسجين).

حفر الصَّاروخ حفْرةً تشبهُ الخندقَ أمَام البناءِ، النّاجي من الحريق لن يفكَّر حتمًا بالرجوعِ إلى الأسفلِ، سمعت نداء عمِّي من الخارجِ:

(الدرج شغال، الدرج شغال اطلعوا).

هذا الصُّوت أنْقَذَنِيْ كَمَا أَنْقَذَ صوتُ إبراهيم _عليهِ السَّلام_ النَّاسَ حينما أَذَّن في الحجّ، فكبَّرتُ وهلَّلْتُ وهرعت صاعدًا إليه.

أنظرُ إلى السَّماء السوداء المنقَّطةِ بالأحمر المتساقط، ويكأنَّ أجرام السَّماء ترتطم بالأرض، شاهدتُ ثُلَّةً من جيرانِنَا ومِنْ أَهْلِ النَّخوةِ، ينظرون إليَّ بشفقةٍ وعجزٍ، وَلمعتْ (نظَّارةُ) أخي وقد كان نائماً في الطَّابق العلويِّ، ها هُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ الجُمُوْعِ؛ فلمَّا رَآني دنا منّي وتلمّس وجهي وأصابه سكوتٌ، فقلت له: 

هل الجميع بخير؟! 

وليتني لم أسأل، فجاوبني:

(الكل ماتوا).

ردّدتُ بصوتٍ مجهِشٍ (لا حولَ ولا قوّة إلّا بالله)، ورجعتُ مسرعًا إلى الأسفلِ لأنقذَ ما تبقّى من العائلة، خشيتُ على العجائز، فصرختُ متلعثمًا:

(ما في وقت لنقول قدمي تؤلمني، أو مو قادر أركض).

تمسكُ يدي فتاةٌ لمْ أعرفْ مَنْ هِيَ؟ واستحييتُ أن أنظر إليها وهي بدونِ حجابٍ، وكُلُّ واحدٍ يمْسَك بيدِ من يليهِ دواليك، وَخَرَجْنَا عَلَى شَكلِ قِطَارٍ يبزغُ من نفقٍ طويل، وَصَلْنَا إلى سطحِ الأرض _بفضل اللهِ_ واستنشقْنَا شيئًا مِنَ الهواءِ، وتفرَّقَ الجمعُ إلى البِنَايَاتِ المجاورةِ، ولمْ أعدْ أعلمُ أينَ ذهبوا؟ والابتلاءُ يَهْجُمُ بجنودِهِ تَتْرا، فتفاجئني جَارتنا وهي تصرخُ باكيةً: 

(مرتك مو معنا!) 

هذا الخبر يشبه بقسوته عليَّ أخبار سقوط مناطق الغوطة!

يا ويح نفسي أين زوجتي؟

النُّزولُ مجدّداً إلى القبوِ المحترقِ بمثابةِ الانتحارِ، حاولت التقاط نَفَس عميق قبل الهلاك، هاجمتُ النَّار من جديد، نادى أخي:

(أنا وراك). 

وُقُوْفُهُ معي أعظمُ من إمدادِ الخشبِ للنَّار، ومشينا مُغَامِرَيْنِ، وأخبرته أثناء النّزول:

(امشي معي، واحفظ الطريق منيح) 

القبو الذي يعرفه أخي غير هذا القبو الذي تغيَّرتْ ملامِحُهُ وأوصافُهُ، بعدَ أن عبثتِ النَّارُ بأدقِّ تفاصيلهِ، جَاءَنا ثباتٌ عجيبٌ من اللهِ، نفتّشُ في أركانِ القبوِ غَيْرِ المحترقةِ؛ ولا نجد أثراً لها، تكاثرتِ النيرانُ، وارتفعت حَرارةُ الجدران، بعض الزَّوايا يستحيلُ الوصولُ إليها، أنادي بأعلى صوتِي عَلَيها، ولا أسمع جوابًا سوى شيءٍ من صدى صوتي، وأَجِيْجِ اللَّظَى.

صعدنا للحصول على (الأوكسجين)، الغوص في البركان ليس سهلًا، بينما أفكِّر: (أين ستكون زوجتي؟)، هتف أخي:

لابدَّ أنَّها في الزَّاوية التي تحترق الآن، وربَّما حاصرتها النَّار فأغمي عليها. 

قرَّرْنا النُّزول تارة أخرى، كلّ هبوط لنا نرى فيه الموت عيانًا، وحالنا بين الخوفِ والإقدامِ، دنوت إلى الزَّاوية المحترقَةِ، النَّار هنا أشدّ وأعتى، والحالُ أشبهُ بطوفانِ نوحٍ الذي لا يُبْقِي ولا يَذَرُ، مع استبدالِ الماءِ بالحريق، استجمعتُ قوتي وكبرّتُ واقتحمتُ اللظى؛ لأعثر على ضالَّتي، أبكي لا من دخان النَّار؛ بل من خوفي على حياة الحبيبة، وإنِ ادَّعيْتُ أنَّ الدُّخان أبْكَاني.

أنقّبُ بين الزّوايا لا أجد شيئاً، تحتّم عليّنا الخروج، قبلَ أن يستحكم الموت، وبعد انقطاع الأملِ بلقياهَا، فهمس لي أخي:

(حتَّى إذِا وجدتها؛ ما رح تكون فيها حياة).

أجلس على حفَّةِ الهاوية المحترقة، ويواسيني أخي وأواسيه، سألتهُ:

(شو حدث بالأعلى ومين خسرنا؟) 

الحمد لله الجميع بخير.

 استغربت جوابه، وصرخت في وجهه:

(كيف ذلك؟! ما قلت لي من وقت: الكل ماتوا).

فاستعجب منّي، مدافعاً عن نفسه:

(بعيد الشر، قلت: الكل نفدوا).

 فرحت بهذا الخبرِ كفرحِ أمِّ موسى بعودة موسى _عليه السَّلام_ إليها بعد إلقائه في اليمِّ، وما سمعتُهُ سابقاً ربَّما من شدّة النّكبات، فَهُيِّأَ لي أنَّهُ قال غير هذا. 

لُطْفُ الله لا يُفَارِقُنَا، جاءَنا الجارُ يهنِّئُنَا بالنّجاةِ، فَقِيْلَ له:

 فقدَ زوجته في الملجأ.

فجاوب الجار مستنكراً:

إنَّها في قَبْوِنا، وهي بخيرٍ والحمد لله.

أصبحتُ عند تلقِّي الأخبار، كعجوزٍ أصابَهُ الخرفُ، فَلَمْ أعدْ قادراً عَلَى تمييزِ الحَقِيْقَةِ من الخَيَال، استنفر أخي:

 (بالله قلت؟ زوجة أخي بخير؟) 

 الجار: (نعم وهي بخير).

خار عزمي، ولم أقوَ على الوقوف؛ فسَاعَدَنِي أخي لأنهض، واتّجهتُ إِلَى القبو المجاور؛ فرَأَيْتُ زوجتي ترتدي غِطَاءَ صلاةٍ أبيضٍ لَيْسَ لَهَا، هَذَا اللقاءُ كلقائِنَا الأولِ عند الرُّؤيةِ الشَّرعيَّة، فبتُّ عاجزاً عن الكلامِ، وفي رأسي ألفُ سؤالٍ وسؤالٍ، ولولا وجود النَّاس من حولنا لعانقتها، وبكيتُ على ذِرَاعيْها، خروج الكلام من فمي أصعب من خروجي من الملجأ المحترق، وترجّل سؤالٌ:

كيفَ خرجتِ؟

 أجابت ببراءةٍ:

 أمسكتُ يدكَ.

ثمَّ ابْتَسَمَتْ، وعندما رأت ذهولي تكلّمت:

كنتَ أوَّلَ واحدٍ أراهُ بعدَ رؤيةِ نارِ الصَّاروخِ، فركضْتُ نحوَكَ والتقطت يدكَ.

نجونا جميعًا _بلطف الله_ من صاروخ اسمه (النَّابالم – الفسفور الحارق) لم يَضْرِبْ هذا النُّوعُ من الصواريخِ مكانًا؛ إلَّا وَقَتَلَ أَهْلَهُ، لكنَّ اللطفَ الإلهيَّ أعجبُ من دخولِ صَّاروخ في قبوٍ مختبئٍ بين الأبنيةِ.

وَأَلْــــــــطَافُ رَبِّـــــــــــــــــي لَمْ تُــــــفَارِقْ بِـــــــــلَادَنَــــا …. وَإِنْ لَمْ تُرَى بِالعَيْنِ بالقَلْبِ تُشْهَدُ

عَــلَـــى كلِّ أبْــــــــــــــوَابِ الــــــمَــــــلاجِئِ لَوْ تَرَى ….. مَلَائِـــكَـــــةَ الـــــــرَّحْــمَنِ تَحْمِـيْ وَتُنْجِدُ

فَصَارُوْخُ فِسْفُوْرِ العِدَا بَــــاتَ بَــارِدَاً ….. بِقَوْلِ إِلهِيْ كُنْ سَـــــــــــــــــــــــــــــــلَاماً فَيَبْرُدُ

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *