يُعدّ مفهوم “العدالة الانتقالية” من المفاهيم القانونية الحديثة، فبعض الفقهاء يُرجعُ جذورَه إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى

استهلال

يُعدّ مفهوم “العدالة الانتقالية” من المفاهيم القانونية الحديثة، فبعض الفقهاء يُرجعُ جذورَه إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث وُجدت محاولات بسيطة لملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة، خاصّة ما ورد في معاهدة فيرساي لعام 1919، من محاولة لإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني. وقد تعزز ذلك المفهوم بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال المحاكمات العسكرية الدولية في طوكيو ونورمبيرغ. وساعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية المختلفة بشكل واضح، في تطوير هذه الفكرة.

كان للثورة الشبابية في نهاية الستينيات أثرٌ واضح على تغيّر نمط التفكير في أوروبا عمومًا، وساهمت -بشكل أو بآخر- في تطوير دور المجتمع المدني، الذي ساهم بدوره في المساعدة على انتقال دول عدّة في جنوب أوروبا، من الحكم العسكري إلى الديمقراطية، كما في اليونان وإسبانيا. وقد اتبعت هذه الدول مناهج وطنية ساهمت بدورها في توطيد مفهوم العدالة الانتقالية. كذلك كان الانتقال السياسي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية في أوروبا الشرقية، حلقة إضافية في هذا المضمار، وقد اتبّعت هذه الدول مسارات مختلفة من العدالة الانتقالية، تتناسب وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ولتلبية احتياجات المرحلة الجديدة، كان لا بدّ من تطوير آليات العدالة الانتقالية، فكانت عمليات المكاشفة وفتح أرشيف المؤسسات الأمنية وإنشاء لجان الحقيقة والمصالحة الوطنية. هذه المسارات نفسها، تقريبًا، انتهجتها دول أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا. مع اندلاع الحروب الأهلية في رواندا ويوغسلافيا، ومع ازدياد حجم الانتهاكات الفظيعة، تحرك المجتمع الدولي لتعزيز المحاكمات الجنائية لملاحقة كبار مرتكبي الانتهاكات، فتم إنشاء محاكم دولية ومختلطة في يوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون.

مع بدايات القرن الحادي والعشرين، تعززت نشاطات المنظمات الدولية العاملة بقضايا حقوق الإنسان، فكان أن تطوّر المفهوم لينتقل من حقل القانون إلى حقلٍ مشترك بين السياسة والاجتماع والقانون، فأصبحت العدالة الانتقالية جزءًا من مسارات إعادة بناء المجتمعات التي حطمتها الدكتاتورية أو مزقتها الحروب الأهلية. ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، كان لا بدّ من إجراء مراجعات كبيرة لهذا المفهوم، فقد دخلت منطقتنا بقوّة ولأول مرّة إلى هذا المجال، خاصّة بعد أن بات من الصعوبة، بمكان، إخفاء الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها أنظمة الحكم بحق الشعوب الثائرة، والميليشيات المسلحة بحق السكان القابعين تحت سيطرتها.

“تعتبر العدالة الانتقالية ميدانًا دائم التوسع من البحث الأكاديمي والممارسة، يتعلق، عمومًا، بمجموعة من الإجراءات التي تتناول انتهاكات سابقة لحقوق الإنسان في أعقاب الانتقال السياسي، وعادة من الحكم الاستبدادي و/أو الصراع العنيف. وفي حين يمكن تحديد آليات العدالة في مرحلة ما بعد الفظائع في التاريخ بأكمله، وبصورة مألوفة أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أنها باتت عنصرًا متكررًا في عملية الانتقال السياسي بدرجة محدودة في جنوب أوروبا في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وبدرجة أكبر في عمليات الانتقال السياسي في أميركا الوسطى والجنوبية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ومرحلة ما بعد الثورات الشيوعية في أوروبا الشرقية في تسعينيات القرن العشرين. وبينما طُبقت العدالة الانتقالية مبدئيًا على نطاق واسع في المجتمعات التي خرجت من أنظمة استبدادية، إلا أنها أصبحت مألوفة أكثر في البلدان الخارجة من صراعات داخلية أو صراعات عبر الحدود، وفي البلدان التي تعاني من صراعات جارية أو ديمقراطية محدودة أو تحول ديمقراطي في أجزاء من آسيا ومنطقة أفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”[1].

على الصعيد السوري، لم يكن إلا قلّة من المختصين على دراية بهذا المفهوم قبل اندلاع الثورة المجيدة، لكن سرعان ما بدأ الناس يهتمون بالأمر، لشدّة ما تعرضوا له من قمع، ولهول ما عانوه من ظلم، ولقسوة ما شاهدوه وعايشوه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية. وقد كانت المساهمات الفكرية، لعدد من المنظمات والأشخاص العاملين بهذا الحقل، محلّ اهتمام وتقديرٍ من المجتمع السوري، لما بيّنته وأوضحته لغير المختصين بهذا المجال.

ما العدالة الانتقالية؟

عرّفها المركز الدولي للعدالة الانتقالية بأنها: (استجابة للانتهاكات الممنهجة أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، تهدف إلى تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية)[2].

وعرّف المشرّع التونسي العدالة الانتقالية بأنها: (مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقته، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا، ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية، ويحفظ الذكرى الجماعية ويوثقها، ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات، والانتقال في مجال الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان)[3].

وقد عرّفها بعض الباحثين بأنها: (سلسلة مترابطة من الإجراءات، تهدف إلى الانتقال بواقع المجتمعات التي مرّت بمدد تعرّضت فيها للعديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلى مجتمع ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، باتخاذ إجراءات قضائية وأخرى غير قضائية، تتمثل في كشف حقيقة الانتهاكات وتعويض الضحايا وجبر الضرر وإصلاح مؤسسات الدولة والمصالحة الوطنية، فضلًا عن حفظ ذاكرة الانتهاكات للحيلولة دون تكرارها في المستقبل)[4].

ونحن نرى أنّ العدالة الانتقالية تُعرّفُ بتعريف غاياتها وأدواتها، فهي من وجهة نظرنا: (مجموعة إجراءات قضائية وغير قضائية تشكّلُ مسارًا وطنيًا أو دوليًا أو مشتركًا، يهدف إلى معالجة انتهاكات حقوق الإنسان في مجتمع معيّن، خلال مرحلة سابقة من الحروب الأهلية أو الحكم الاستبدادي، وبعد الانتقال إلى الديمقراطية، بحيث يتم محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وجبر ضرر الضحايا وتخليد ذكراهم، وإصلاح مؤسسات الدولة وفرز موظفيها، وفتح حوارات عامة لمعرفة الأسباب وبحث النتائج واستخلاص العبر، للوصول إلى توافق وطني على منع تكرار الانتهاكات والتجاوزات، وبالتالي تعزيز اللُحمة الوطنية ورأب الصدوع الاجتماعية وتركيز السلم الأهلي بعد إجراء المصالحات المستندة لكل ما سبق).

وتتطوّر العدالة الانتقالية مع الزمن، فنلاحظ أنها باتت تقترب من أن تصبح واحدة من جملة الأدوات الفعّالة، في تعزيز قيمِ المواطنة وحقوق الإنسان وتعميم المشاركة المجتمعية وتطبيق الديمقراطية وممارستها.

وقد تصلُ العدالة الانتقالية في المستقبل إلى مرحلة من الأهميّة، بحيث تشمل حق الشعوب بمحاسبة الدول الاستعمارية على ما ارتكبته جيوشها وحكوماتها من جرائم ضدها من جهة، ومطالبتها بالتعويض عمّا نهبته من ثرواتها، وعمّا ألحقته بها من أضرار أدت إلى تأخرها عن اللحاق بركب الحضارة والمدنية من جهة ثانية.

لا تنظر العدالة الانتقالية إلى الماضي إلا بعيون المستقبل، فاستقرار المجتمعات وتوجهها نحو التنمية لا يتمّ إلا بمواجهة الأخطاء من أجل تجاوزها، لا بتأجيلها أو السكوت عنها. غاية العدالة الانتقالية النهائية، إذن، هي الوصول إلى مجتمع المواطنة المتصالح مع نفسه. ولا تكون المصالحة بدون معرفة، ولا تكون المعرفة دون حوار. ويجب أن يخلُصَ الحوار إلى تحديد المسؤوليات، ومن ثم إلى إيجاد البدائل وتطوير العلاقات المجتمعية على أسس جديدة، غير تلك التي سببت الشروخ المجتمعية وأدّت لارتكاب الانتهاكات.

“يمكن للعدالة الانتقالية أن تعيد معايرة مسار التحولات السياسية بطريقتين: الأولى من خلال قدرتها على لعب دور في إبعاد الأطراف السياسية المؤثرة عن العملية الانتقالية؛ والثانية من خلال المحاكمات الجنائية للنخب السابقة، أو الإقصاء السياسي لها، وذلك عن طريق إصدار تشريعات للتطهير أو التدقيق. وقد استخدمت الأخيرة في ليبيا لإبعاد أي شخصٍ، تم اعتباره موظفًا حكوميًا كبيرًا في ظل حكم القذافي، عن الحياة السياسية. أما المسار الثاني، الذي يمكن للعدالة الانتقالية من خلاله أن تعيد معايرة مسار الانتقال السياسي، فيتمثل في وظيفتها الرمزية في إعادة صياغة الشرعية والدولة، أو من خلال بناء ماضٍ مشترك صالح. أعتقد أن مفهوم الماضي الصالح مفيدٌ في إيضاح كيف أثرت عمليات العدالة الانتقالية ومناقشاتها خلال عملية الانتقال السياسي المتنازع عليها في تونس”[5].

تفتح العدالة الانتقالية باب الحوار أمام المواطنين والفاعليين السياسيين والنخبة الثقافية ومنظمات المجتمع المدني، من أجل إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية، ولمبدأ المواطنة، ولمفاهيم سيادة القانون وعدم الإفلات من العقاب والمساواة، بهدف تعزيز المصالحة الوطنية والثقافة المجتمعية المشتركة والممارسة الديمقراطية.

يتحدد مضمون العدالة الانتقالية، إذن، من خلال طبيعة الانتهاكات التي تحاول معالجتها ومعالجة آثارها ومنع تكرارها. فما يصلح لمجتمع ما يمكن ألا يصلح لمجتمع آخر. مع ذلك، تشترك أغلب انتهاكات حقوق الإنسان التي عالجتها مسارات العدالة الانتقالية المختلفة، بأساسيات واضحة، من بينها الاستبداد والتسلطية، أو ضياع الهُوية المجتمعية، أو عدم اكتمال عناصرها، أو العنصرية والتعصّب والتمييز السلبي على أسس دينية، أو طائفية، أو قومية، أو عرقية. من هنا، تكون المضامين العامّة للعدالة الانتقالية قريبة من بعضها بالرغم من اختلاف المجتمعات التي تأخذ بها، لكن ما يمكن أن يختلف بشكل واضح هو أدوات تطبيق هذه المسارات وآليات عملها.

وتختلف العدالة الانتقالية عن العدالة بمفهومها العام في أنها نوعٌ خاصٌ من الإجراءات التي تتضمن، إضافة إلى الأدوات القضائية والمناهج القانونية، أدوات ومناهج سياسية واجتماعية وحتى طبية ونفسية، لتقوم بمهامها المطلوبة منها. فبينما نجد في العدالة العامة مفاهيم محددة ترد في القوانين المدنية المختلفة، تتمحور حول الحقوق والواجبات والمساواة بشكل عام، وفي القوانين الجزائية مفاهيم محددة متعلقة بالتجريم والعقاب، فإننا نجد في العدالة الانتقالية أشياء مختلفة، بشكل أو بآخر. فقد سلكت بعض الشعوب طرقًا جديدة غير مألوفة في العدالة بمفهومها العام للتخلص من إرث الانتهاكات الفظيعة ومعالجتها.

تُحدد طبيعة الخلاف، بين العدالة بالمفهوم العام والعدالة الانتقالية، شكلَ كل منهما ومضمونه. فالعدالة الانتقالية تواجه أزمات مجتمعية حادة ومتفاقمة وكبيرة بشكل عام، فهي تعمّ المجتمع بأسره أو جزءًا كبيرًا منه، لهذا لا بدّ لها من آليات مختلفة وطرق عمل مغايرة. بينما تواجه العدالة الجنائية أو المدنية، أي العدالة بمفهومها العام الاعتيادي، حالات فردية لا تصل إلى مستوى الكوارث التي تهدد المجتمع والدولة برمتها.

إنّ طبيعة وحجم الانتهاكات الكبيرة والهائلة في مجتمع ما، والتي يُفترض بالعدالة الانتقالية معالجته، يَخرُجُ عن قدرة تحمّل الأجهزة القضائية. يفترض هذا اجتراح أساليبَ وأشكالًا جديدة من التعامل مع الانتهاكات، كما حصل في جنوب أفريقيا مثلًا.

“يتمثل مسار العدالة الانتقالية في دولة جنوب إفريقيا بتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة كآلية لتحقيق العدالة، خلال مرحلة الانتقال السياسي من مرحلة الحكم العنصري، ومواجهة انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، أملًا بالوصول إلى مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. فبعد انتخابات العام 1994، وفوز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي فيها، وتنصيب حكومة انتقالية بزعامة نيلسون مانديلا، أمر بإنشاء (لجنة الحقيقة والمصالحة)، ولا سيما بعد التأسيس لها دستوريًا، وكان الهدف منها: وضع سجل مفصل بخصوص مدى وأسباب انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الحكم العنصري، وتحديد الأشخاص والمؤسسات والأحزاب السياسية وغيرها المسؤولة عن هذه الانتهاكات، فضلًا عن توفير منابر علنية لضحايا الانتهاكات، للتعبير عن أنفسهم من أجل استعادة كرامتهم، وتقديم مقترحات للحكومة بخصوص الإجراءات المطلوبة، لتأهيل الضحايا، وسبل منع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل، وإعادة بناء المجتمع وتعزيز الوحدة الوطنية عن طريق كشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان، ووضع عفوٍ عامٍ لمن قاموا بالانتهاكات… وقد صادق البرلمان على قانون تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة رقم 34 لعام 1995 الذي أسس للجنة الحقيقة والمصالحة، وأعطاها القانون سلطة منح العفو الفردي والمصادرة وجلب وإحضار الشهود، فضلًا عن إدارة برنامج متطوّر لحماية الشهود، وقد عيّن الرئيس نيلسون مانديلا أعضاء تلك اللجنة والبالغ عددهم 17 عضوًا، واختير القس ديزموند توتو رئيسًا لها..”[6].

نماذج وأشكال العدالة الانتقالية المختلفة

ليس للعدالة الانتقالية شكل واحد أو نموذج افتراضي، فهي بكل الأحوال مفهوم جديد لم تكتمل عناصر تطوره بشكل نهائي من جهة أولى، وهي بنية متغيّرة بتغيّر البيئات التي تُستعمل فيها من جهة ثانية.

تقوم العدالة الانتقالية، في الأساس، على ضرورة فهم السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يطبع المجتمع المعني بالاستعانة بها لمعالجة آثار انتهاكات الماضي، فلا يمكن تصوّر نقل تجربة بلد ما بحذافيرها إلى بلد آخر، فالأولويات والتحديات والعقبات تختلف من بلد لآخر بكل تأكيد.

وبكل الأحوال، فإنّ العدالة الانتقالية مجرد طريق استثنائي يهدف إلى إعادة فرض سيادة القوانين واحترامها، الأمر الذي تمّ تعطيله في الفترة السابقة وأدّى ذلك إلى وقوع الانتهاكات، فلو كانت القوانين سائدة حقًا، ولو كانت مؤسسات إنفاذ القانون في الدولة المعنية بخير، لما وقعت هذه الانتهاكات من الأساس.

تكمن أسباب وقوع الانتهاكات في جذرٍ واضح من الإقصاء المجتمعي، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو العرقي، أو الديني، أو من خليط كامل بينها، وهذا يعني أنّ التخلّص من هذه الأسباب يفترض مشاركة مجتمعية على أوسع نطاق ممكن، وبهذه الطريقة يمكن أخذ اعتبارات الجميع بالحسبان، ويمكن أن يصل المتحاورون إلى نقاط مشتركة لتهدئة مخاوفهم بأشكالٍ قابلة للاستدامة.

للعدالة الانتقالية، إذن، أشكال متعددة، ويحدد شكل النموذج المعتمد في معالجة انتهاكاتٍ وقعت في بلد ما، مجملُ السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذا البلد من جهة، وفلسفة النخب السياسية المعتمدة لشكل تجاوز تركة الماضي من جهة ثانية.

“تعتبر الأشكال المتعددة للعدالة الانتقالية من العوامل المهمّة المسؤولة عن الآثار المتفاوتة لممارسة حقوق الإنسان اللاحقة، لكنها ليست العامل الوحيد. فمن شأن دوافع وقدرة رجال السلطة بعد عملية الانتقال السياسي أن تُسهم أيضًا في صياغة نتائج عمليات العدالة الانتقالية. ويمكن للسلطات أن تدعم العملية القضائية بنيّةٍ صادقةٍ للكشف عن الحقائق ومحاكمة المسؤولين عن الإساءات، أو يمكنها، عوضًا عن ذلك، أن تدعمها على مضض، أملًا بإرضاء النقّاد المحليين والدوليين والمضي قدمًا. وقد يجد المسؤولون، حتى غير الملتزمين بالإصلاح أو تعزيز حقوق الإنسان، فائدةً في عملية عدالة انتقالية تنأى بهم عن أسلافهم وتضعف منافسيهم السياسيين أو تقصيهم. وفي المجمل، قد تؤدي دوافع مختلفة إلى موافقة السلطات على وضع سياسة عدالة انتقالية، على الرغم من وجود أسباب وجيهة تدعو للارتياب بشأن النتائج النهائية، وإن كانت ستؤدي إلى تحسين حقوق الإنسان”[7].

بشكل عام، هناك فلسفتان أساسيتان، أو مذهبان رائجان في هذا السياق، يعتمد الأول مبدأ العدالة العقابية، بينما يعتمد الثاني مبدأ العدالة التصالحية.

أولًا: العدالة الانتقالية القائمة على فلسفة العقاب

تنطلق هذه الفلسفة من ضرورة عدم جواز الإفلات من العقاب، مما يستتبع أن يكون جوهر العملية قائمًا على الملاحقات القضائية والمحاكمات من جهة، وعلى تعويض الضحايا من جهة ثانية. هنا تركّز العملية على مسائل جمع الأدلّة الجنائية وأرشفتها وإنشاء لجان التحقيق والمحاكم الوطنية أو الدولية أو المختلطة. وهذا ما نجده في سياق حالة يوغسلافيا السابقة، حيث تم التركيز على ملاحقة كبار مجرمي الحرب.

“تُستخدم مصطلحات العدالة الجزائية أو العدالة العقابية أو العدالة الردعية، للدلالة على مفهوم العدالة الانتقالية عندما يتم تناولها في سياق التعامل مع الانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أي يستخدم المصطلح للتعبير عن عملية الانتصاف الجنائي للضحايا ورد اعتبارهم من خلال وسائل قانونية قضائية ذات طبيعة عقابية…

يستمد نموذج العدالة العقابية مبادئه وآلياته من المعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان، أي يرتكز بشكل رئيسي على مبدأ عدم الإفلات من العقاب ومبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، عن طريق دعم آليات الملاحقات الجنائية من قبل المحاكم الوطنية أو الدولية أو كليهما، لمحاسبة الجناة من مرتكبي الجرائم الدولية بشكل يحقق الردع ويمنع التكرار، وتنظر العدالة العقابية إلى الضرر الذي لحق بضحايا انتهاكات حقوق الإنسان باعتباره خروجًا عن القانون الدولي في عمومه، على أنها تتجه للتعامل معه عن طريق الإدانة القضائية، وتربط العدالة العقابية بين المسؤولية الجنائية عن وقوع الضرر باعتباره انتهاكًا للقانون الدولي وبين وجوب إيقاع العقاب الجزائي، دون التركيز على تفحص العلاقة بين الضحايا والجناة”[8].

ثانيًا: العدالة التصالحية القائمة على فلسفة المسامحة

ينطلق هذا الاتجاه من فلسفة تغليب اعتبارات إعادة دمج الجناة بالمجتمع، وليس التركيز على الانتقام منهم من خلال العقاب، مع التركيز على تعويض الضحايا لدفعهم نحو المستقبل. “تسعى العدالة التصالحية إلى إقامة توازن بين شواغل الضحية والمجتمع المحلي والحاجة إلى إعادة إدماج الجاني في المجتمع، وهي تسعى إلى تقديم المساعدة على استعادة حقوق الضحية وتمكين جميع الأطراف ذوي المصلحة في إجراءات العدالة من المشاركة فيها بصورة مثمرة”[9].

والحقيقة أنّ نهج العدالة التصالحية ينفع في حالات العدالة الجنائية العادية أكثر، أي ضمن أُطر التجاوزات الفردية، وخاصّة في الدول المتقدّمة. كذلك يمكن تصوّره في المجتمعات التي عانت من التمييز العنصري، كما حصل في جنوب إفريقيا حيث طغت هذه الفلسفة.

“إنّ أهم ما يميّز مرحلة العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا أنها اعتمدت على آلية لبلوغ المصالحة الوطنية، تقوم على أساس إقرار المسؤول بما ارتكبه من انتهاكات وتجاوزات أمام هيئة معرفة الحقيقة، كشرط للحصول على العفو، بلوغًا للمصالحة الوطنية من أجل تحقيق العدالة التصالحية وليس العدالة العقابية أو الانتقامية”[10].

لكن يؤخذ على هذا النهج أنّه لا يمكن أن يغلق أبواب الأحقاد والضغائن، إذا ما أفلت مرتكبو الانتهاكات الخطيرة مثل الاغتصاب والقتل والتعذيب من العقاب. فقد تقبل الضحية بهذا النهج تحت ضغوط الحاجة المادية أو الضغوط المجتمعية، وهو ما لا يمكن اعتباره شفاءً للأرواح المعذّبة وإعادة للكرامات المهدورة.

بكل الأحوال، لا يمكن أن تنجح جهود العدالة الانتقالية بشكل ناجع في أي بلدٍ، ما لم تدمج بين الفلسفتين، فالعقاب وحده لا يكفي، لأنّ استحقاقات جبر الضرر وتعويض الضحايا يجب أن تبقى في المركز من أي مسار عدالة انتقالية. كذلك لا يكفي إعادة دمج الجناة وتعويض الضحايا، لأنّ العقاب يتضمن في جزء منه إعادة ضبط للمجتمع بتحقيق أهداف العقوبة من الردع الخاص والعام.

هل العدالة الانتقالية ضرورية ولازمة لسورية الجديدة؟

لا شكّ في أنّ العدالة الانتقالية ضرورية ولازمة لسورية الجديدة، فلا يمكن تصوّر معالجة الانتهاكات الهائلة لحقوق السوريين، التي وقعت على مدار أكثر من ستين عامًا من سيطرة الاستبداد والدكتاتورية والتسلط. فهذا الأمر لم يقتصر -برأينا- على قضايا القتل والاعتقال والاختفاء القسري والتعذيب، بما يُضاف إليها خلال العقد الأخير جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتهجير قسري وتغيير ديموغرافي، بل إنّ الأمر يشمل أيضًا قضايا الاستيلاء على الملكيات من خلال قوانين الاستملاك الجائرة وقوانين التأميم المتعاقبة وغيرها من طرق الإثراء على حساب الملكية الخاصة للمواطنين.

لقد تنوّع إرث الانتهاكات في سورية بحيث لم يترك فردًا، أو فئة قومية، أو عرقية، أو دينية، أو ثقافية ولم يطلها، بشكل أو بآخر، وهذا يفرض علينا أن نعمل على ابتداع مسارنا الخاص للعدالة الانتقالية، بحيث يكون قادرًا على ضبط الحالة المتردية من فقدان الهُوية الوطنية وتبخّر أسس الثقة والعيش بسلام. وإنّنا بحاجة إلى كمّ هائل من الأدوات والآليات للمساعدة في معالجة آثار هذه الانتهاكات من جهة، وفي منع تكرارها من جهة ثانية.

لا غنى لنا عن المحاكمات الجنائية، فعدد المجرمين المفترضين من جميع الأطراف يفوق القدرة على التوقع والضبط. وهنا لا بدّ من سياسة واضحة في هذا المجال، فهل نكتفي بمحاكمة فئة معينة من كبار المسؤولين، أم علينا أن ضع معيارًا موضوعيًا يتعلق بطبيعة الجرائم المرتكبة، أم علينا أن نلاحق كل المجرمين الذين يمكن إثبات التهم عليهم؟ هنا يجب ألا ننسى التحديات الخطيرة في هذا السياق، فهل لدينا ما يكفي من المحامين ومن الكوادر القضائية الحيادية والنزيهة والمؤهلة؟ وهل لدينا قدرة استيعابية من حيث دور المحاكم والتوقيف والسجون؟ وهل لدينا فائض المال اللازم لتمويل هذه الملاحقات؟ وهل تنحصر أولوياتنا بإعادة الإعمار وإعادة المهجرين وتعويض الضحايا، أم في الانتقام من المجرمين؟

لا يمكن الاستغناء عن أولويات كشف الحقيقة، وهذا أقلّ ما يمكن القيام به لحفظ كرامة الضحايا. فهل تتوفر لدينا المنصات القادرة على فرز الحقائق من الأكاذيب؟ وهل لدينا القدرة على فتح أرشيف أجهزة المخابرات السورية المختلفة؟ وهل يحتمل المجتمع كشف كل هذا العفن دفعة واحدة؟ ثم هل لدينا الوقت الكافي والتمويل اللازم لذلك، أم علينا الحرص على الموازنة بين الضروري من هذا واللازم من ذاك؟

هل يمكن تصوّر سورية الجديدة بدون تعويض على الضحايا؟ بالتأكيد لا يمكن للمجتمع أن يضع أولى خطواته على طريق الاستقرار، ما لم يتم أخذ اعتبارات الضحايا والتعويض عليهم في الحسبان. كذلك لا يمكن التقليل من شأن بناء عملية عدالة انتقالية حساسة للجندر، ومتوافقة مع مقتضيات النوع الاجتماعي. لكن بالمقابل، هل لدينا تعريف واضح للضحايا، وهل يمكننا تأمين التمويل اللازم لجبر الضرر، ومن أين نبدأ زمانيًا، من عام 2011، أم من عام 1970، أم من عام 1963، أم من عام 1958…؟ ومن أين نبدأ مكانيًا، من المدن الكبرى، أم من الأرياف، أم من المخيمات؟ هل لدينا إمكانية لتمويل هذه العمليات كلها؟

كيف يمكننا تصوّر سورية الجديدة بدون إصلاح مؤسساتها، وهل يمكن التعايش مع جيش كانت عقيدته وممارساته خلال سنوات الثورة قائمةً على القتل والتدمير والنهب؟ وهل يمكننا قبول وجود الأجهزة الأمنية الخارجة عن سيادة القانون، ذات العقيدة القائمة على القمع وممارسة التعذيب والإخفاء القسري وهدر كرامة الإنسان؟ وهل نتصوّر باقي الأجهزة الدولة مثل المؤسسات الصحية والتعليمية والقضائية والإعلامية بدون إصلاح بنيوي هيكلي شامل؟

كيف يمكننا التعامل مع الموظفين المغرقين في حلقات الفساد؟ كيف يمكننا التخلص من النظم القانونية والضريبية والمصرفية والمالية المتهالكة التي استُعملت بشكل أو بآخر بإطالة عمر الاستبداد؟

بالمقابل، من أين سنأتي بموظفين غير متورطين بالانتهاكات أو غير فاسدين؟ وهل بقي من السوريين من لم يتلوّث بدرجة أو بأخرى؟ ومن أين لنا بمؤسسات ونظمٍ جديدة غير القائمة حاليًا؟ وهل يَصلحُ الفاسدون لقيادة عمليات الإصلاح؟

كيف لنا أن نتخيل سورية بدون ذاكرتها؟ وهل يمكن التغاضي عن عمليات إحياء ذكرى المفقودين والمختفين؟ وهل يمكن تجاوز الماضي دون أرشفته وتثبيته في الوجدان والضمير الجمعي السوري؟ ألم يكن جزءٌ كبير من مسببات هذه الانتهاكات، هو الشعور العميق عند فئات متعددة من السوريين بالظلم التاريخي الواقع عليهم، وأنّ الفرصة واتتهم للانتقام؟ أليس من الواجب أن يتم الاعتراف بالذاكرة الجمعية القديمة لتجاوزها؟

الحقيقة أنّ العدالة الانتقالية في سورية أكثر من واجبة، ولا يمكن التطلّع إلى المستقبل بدون مسار سوري خاصّ يوازن بين جميع الاعتبارات السابقة وغيرها مما لم يتم التطرق إليه.

شكل ومضمون العدالة الانتقالية المطلوبة لسورية الجديدة

إنّ سورية الجديدة بحاجة إلى فلسفة خاصّة بها للعدالة الانتقالية، فحجم الانتهاكات من جهة، وحجم التحديات من جهة ثانية، يجعل من الواجب تصميم برامج متنوعة بآليات متعددة وأدوات مختلفة للوصول إلى النتائج المرجوة.

لا يمكننا الاكتفاء في سورية الجديدة بالآليات القضائية فقط، بل يجب أن نستخدم جميع الآليات المتاحة. لا بدّ من نهج متكامل لمعالجة آثار الانتهاكات الخطيرة والجسيمة والممتدة، بل علينا أن نبتدع آليات جديدة تتناسب وواقعنا السوري. نحتاج إلى محاكمات وطنية، بمساعدة ومعونة دولية، فلا يمكننا تحمّل تكاليف تمويل المحاكم الدولية من جهة، كما ليس لدينا ترف الوقت ولا طول الصبر لهذا النوع من المحاكمات من جهة ثانية. ولنتذكر كيف كان موقف القضاء المصري من محاولات التغيير بعد ثورة يناير، لنعرف مدى الحاجة إلى المعونة الدولية في المحاكمات القادمة.

“عرقل القضاء المصري عملية الانتقال السياسي من خلال تعاونه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتحدي مرسي. وعلى وجه التحديد، كانت الإعلانات الدستورية والمراسيم التنفيذية التي يصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعتبر قانونية على الدوام، في حين كان يجري التدقيق والتمحيص في إجراءات نظام مرسي بشدة من قبل هيئة قضائية متشككة ذات أجندة معرقلة على ما يبدو. وبالفعل، أصدرت المحكمة الدستورية العليا قرارات تهدف بوضوح إلى تكبيل يدي

رئيس ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تدور حولها الشكوك منذ زمن طويل. وعلى الرغم من عدم تجانس السلطة القضائية، فإن عددًا كافيًا من القضاة في قمة هرم هيكل حوكمة مركزي، إلى جانب نائب عام نافذ ومسيّس، يملكون مصالح خاصة في التعاون مع الأجهزة الأمنية والعسكرية لتخريب جهود الإصلاح التي يبذلها الثوار الشباب، ومنع أيّ إعادة هيكلة منهجية للنظام السياسي والاقتصادي”[11].

نحتاج إلى صندوق وطني للتعويض عن الضحايا، ويجب أن نبذل جهودًا جبّارة لدعم هذا الصندوق دوليًا. لا بدّ من السعي لدى الدول المختلفة لمصادرة أموال مرتكبي الانتهاكات والحجز على أرصدتهم في البنوك المختلفة، بغية تمويل الصندوق الوطني منها.

ولا بدّ لنا من إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية، وإعادة بناء الجيش على أسس مختلفة، من حيث العقيدة والتدريب والتبعية. كذلك لا بدّ من حلّ الأجهزة الأمنية كلها، وإعادة بنائها وفق أسس احترام حقوق الإنسان. ويجب إصلاح مؤسسات الدولة كافة وإصلاح البنية الدستورية والتشريعية بالكامل.

سيكون من الواجب على هيئات المجتمع المدني المشاركة الفاعلة في هذا الجهد، من خلال التنفيذ، والمتابعة، والرقابة، والتوجيه، والنقد، والمكاشفة. وتجب الاستفادة من البنى العشائرية والعائلية في المناطق التي توجد بها هذه الامتدادات المجتمعية، لحل كثير من القضايا العالقة، فيمكن على سبيل المثال ردّ كثيرٍ من المظالم التي لم تصل إلى مستوى الجرائم الخطيرة عن طريق هذه المؤسسات المجتمعية.

كذلك يمكننا الاستفادة من وجود المؤسسات الدينية لحلّ بعض القضايا الخاصة بأبناء الدين الواحد، فبعض الأمور يمكن تجاوزها بوساطات رعاة هذه المؤسسات دون الحاجة إلى إغراق القضاء بها.

أهمّ ما نحتاج إليه في سورية هو تشكيل هيئة لدراسة وفحص أرشيف أجهزة المخابرات السورية منذ نشأتها. يجب أن تتألف اللجنة من عدد محدود من كبار الشخصيات السورية، رجالًا ونساءً، من السياسيين، والمفكرين، والقانونيين، والعلماء، والأدباء، والفنانين. على أن يكون من صلاحياتها حجب المعلومات التي تمس أمن الدولة، والمعلومات التي تسيء للأفراد بشكل شخصي. لكن يجب أن يكون من مهامها فتح الملفات التي تراها مناسبة لتعريف السوريين بحجم القمع الممارس ضدهم، وتبيان الآليات والمناهج التي استخدمتها هذه الأجهزة لتكريس الاستبداد، بهدف محاربة أي توجه لإعادة إحيائها أو السماح بممارستها مجددًا.

أخيرًا، لا بدّ من وضع نهج خاص بالمصارحة العلنية، يستتبعه إفساح المجال للضحايا بكل حرية للحديث عن معاناتهم، ثم فسح المجال أمام كل من ارتكب تجاوزًا أو انتهاكًا بحق غيره، ليعبّر عن ندمه وليقدّم اعتذاره العلني. ويجب أن تقترن المصالحات بالتعويض عن الأضرار، ويجب أن يتحمل الأفراد نتائج أخطائهم، كما يجب أن تتحمل الدولة السورية المسؤولية عن تجاوزات أجهزتها ومؤسساتها.

“يعتبر تقديم التعويضات اعترافًا بالذنب وإقرارًا بالمسؤولية من الجهة الرسمية التي شغل المتهمون فيها المناصب الرسمية والسلطة التي بمقتضاها دفعوا المرؤوسين إلى إطاعتهم وتنفيذ تلك الأعمال الوحشية، ويأتي قبولها كخطوة من الضحايا في اتجاه الاستعداد للمصالحة، وإذ يتساءل الفيلسوف الأميركي جون راولز John Rawls: “ما معنى الحريّة لمن لا يملك شيئًا!”، فإننا نستطيع أن نتساءل بدورنا: ما معنى العدالة دون تعويض الضرر؟ بمعنى أن تكريس نظام العدالة لأي قيمة، مهما كانت سامية كالحرية، غير كافٍ بذاته، دون ضمان الحقوق وصيانتها، وهذا يتضمن إقرار مبدأ المسؤولية وتعويض الضرر”[12].

من الصعوبة بمكان تحديد أولويات العدالة الانتقالية في سورية، لكن بما أنّ المعتقلين والمختفين قسريًا أكثر من عانوا وأهلهم في سورية، فإنّ فتح ملفهم للإفراج عنهم وبيان مصير المختفي والمفقود منهم، وتعويضهم هو الأولى، بحسب رأينا. يلي ذلك موضوع محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، من جميع الأطراف، وخاصّة مرتكبي جرائم قصف المدن بالطيران والكيمياوي والأسلحة المحرمة، ومرتكبي جرائم التعذيب والاغتصاب. لا بدّ أن تشمل هذه المحاكمات كبار القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين، وكذلك القادة الفعليين من أمراء الحرب وقادة الميليشيات، الذين تثبت بحقهم هذه الجرائم. كما يجب أن تتدرّج أولويات المحاكمة، بحيث تصل إلى الحد الذي يمنع مبدأ استيفاء الحق بالذات، ويعزز قناعة الضحايا بالعدالة الجنائية كأداة من أدوات العدالة الانتقالية. يمكن أن توضع ضوابط لهذا الأمر، بحيث يمنع كل من خدم في الجيش والأجهزة الأمنية حتى رتبة معينة أو حتى درجة معينة للموظفين المدنيين من السفر خارج البلاد، إلى أن يتمّ فحص ملفاتهم. طبعًا، لا يمنع ذلك من ملاحقة من تتوفر بحقه أدلّة واضحة، لو كان من خارج هذا التصنيف.

الأولوية الثالثة هي تعويض الضحايا من غير الفئات السابقة، أي متضرري الحرب وأصحاب الإصابات. بعد ذلك يمكن النظر في بقية مفردات العدالة الانتقالية متى توفر التمويل اللازم.

إنّ تحديد أبعاد العدالة الانتقالية في سورية الجديدة مرهون بأمور كثيرة، أهمها استتباب الأمن، ووجود التمويل الكافي، فبدون ذلك؛ لا قدرة لأي برنامج على التطبيق وإحداث الأثر. لكن إلى أي مدى يمكن للعدالة الانتقالية أن تحقق أغراضها؟! هذا مرهون بمتحولات كثيرة، فلا يمكن أن يكون هناك علاج حقيقي لآثار الانتهاكات، مثلًا، إن لم يتم علاج أسبابها، فكيف ستؤدي العدالة الانتقالية غرضها من منع التعذيب، إذا لم تتم ملاحقة مرتكبي هذه الجريمة، وتنظيف المؤسسات الزجرية من كل من ارتكب أي فعل يشكل عنصرًا من هذا الجرم؟ لكن، بالمقابل، كيف لنا أن نُفرغ الأجهزة هذه من جميع موظفيها، ونحن نعلم أنّ النسبة العظمى منهم متورطون بلا شك بهذه الانتهاكات، حتى ولو لم نستطع إثبات ذلك عليهم؟

لدينا عقبات هائلة في طريق تحقيق العدالة الانتقالية في سورية، ليس أولها البيئة الآمنة، وليس آخرها التمويل. هناك نقص بالخبرات والمعارف، وهناك نقص بالكوادر المؤهلة والمدربة في كل الميادين والمجالات، وهناك نقص بالتشريعات والأنظمة، وهناك أيضًا دمارٌ هائل بالبنى التحتية اللازمة لهذه العملية، من قاعات ووسائل نقل ومحاكم ومصارف ومدارس وساحات وطرق …. وكذلك هناك عوارٌ حقيقي في منظومات العمل بالشأن العام، وأهمّ عوارٍ ما نشاهده من تغوّل الخطاب الشعبوي الذي يجعل النخب السياسية والثقافية على تضادٍّ مع الشعب، وبالتالي ينزع من المجتمع أهم ما لديه من أدوات التغيير.

مدى ارتباط العدالة الانتقالية بملفات الانتقال الديمقراطي المختلفة

أولًا: العقد الاجتماعي والدستور

لا شك في أنّ العدالة الانتقالية مرتبطة بالعقد الاجتماعي، الذي هو -بشكل أو بآخر- مجموع إرادات السوريين بالعيش المشترك، وفق قواعد تحقق تطلعاتهم وتنظم سبل حياتهم، أو باعتباره إرادة السوريين المشتركة بالعيش معًا. فالانتقال من الاستبداد إلى الحرية والديمقراطية هو إرادة، والاحتكام إلى القانون ومنع استيفاء الحق بالذات هو إرادة، وتصفية تركة الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان هو إرادة. فبدون هذا التعاقد الظاهر/ الخفي، أو دون هذه الإرادة المشتركة، لا يمكن للعدالة الانتقالية أن تأخذ مجراها وأن تؤتي أُكلها.

والعدالة الانتقالية مرتبطة أيضًا بالدستور، فبدون نصوص دستورية واضحة وحازمة، لا يمكن أن يحوز أي مسار للعدالة الانتقالية الشرعيةَ والقبول من جهة، كما لا يمكن إلزام الحكومات والأحزاب المتعاقبة على الحكم بذلك من جهة ثانية. ولكي يبقى هذا الأمر خارج نطاق التنافس السياسي والحزبي، ولكيلا يصبح أداة للانتقام والإقصاء كما حدث في العراق، أو كي لا يتوقف عند رغبة أحد الأطراف، أو كي لا يتوجّه إلى تحقيق مصالح طرف على حساب أطراف أخرى، كما يدّعي البعض حصوله في تونس، فإنّه يجب أن يكون محصّنًا بنصوص دستورية قاطعة الدلالة.

ثانيًا: بموضوع المصالحة الوطنية ورأب الصدوع المجتمعية

غاية العدالة الانتقالية النهائية هي رأب الصدوع المجتمعية والوصول إلى مصالحة وطنية قائمة على القبول والرضى والتسامح، وهذا لا يتمّ دون المرور بإجراءات من شأنها جلاء الأحقاد والضغائن، ومن نتائجها رفع المظالم وإعادة الحقوق لأهلها، وفي الصميم منها تعويض الضحايا وجبر الأضرار. إنّ كشف الحقائق ومعرفة الخبايا خلال برامج الحوار الوطني غاية بحد ذاتها، فحق الناس بالمعرفة، وحقهم بإيصال أصواتهم، وحقهم بالأخذ بها، جزءٌ مهمٌ من مسار المصالحة الوطنية، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء قابل للديمومة.

ثالثًا: استعادة الأمن والأمان

هي الأرضية الواجب توفرها لبدء برامج العدالة الانتقالية. وتشكّل هذه الأخيرة في الوقت نفسه الدافع المحرّك لتعزيز الأمن والأمان، فبدون وصول الناس إلى قناعة بشرعية هذه الإجراءات من جهة، وبجدواها من جهة ثانية، لن يكون بالإمكان منعهم من الانتقام والثأر ومن استيفاء حقوقهم بالذات، وهذا بدوره سيؤدي إلى مزيد من الاضطرابات والجرائم والشروخ المجتمعية.

رابعًا: الحقوق والحريات وسيادة القانون

تشكّل هذه العناصر بمجملها سببًا للعدالة الانتقالية، ونتيجة لنجاحها في الوقت نفسه أيضًا. فبدون ضمان وجود الحقوق والحريات في سورية الجديدة، دستوريًا وفعليًا، لا يمكن أن ينجح أي مشروع للعدالة الانتقالية، فلو قُمعت الحريات أو لو مُنع الضحايا من الإدلاء بآرائهم وتصوراتهم بحرية، فلن يكون هناك أي نتائج بتحقيق الرضى والقبول، وبالنتيجة لن نصل إلى السلم الأهلي.

خامسًا: عودة المهجرين

لن يقبل المهجرون العودة مع بقاء الاستبداد، ودون الوصول إلى قناعة ببدء عملية الانتقال السياسي، ولن يعود اللاجئون في البلاد الديمقراطية، خاصّة من هم في أوروبا وكندا وأميركا، دون رؤيتهم نتائج واضحة للعدالة الانتقالية، فهم في الغالب الأعمّ غير مجبرين على العودة تحت أي ظرف، وغالبيتهم ستكون قد قطعت أشواطًا بالاندماج في المجتمعات الجديدة، وتأقلمت مع مستويات جيدة أو حتى متقدمة من الخدمات والحقوق والحريات، وبالتالي لن تغامر بالعودة بدون رؤيتها واقعًا مغايرًا عما سبب هروبها ولجوئها خارج سورية. قد يضطرّ المهجرون داخليًا أو في دول الجوار إلى القبول بالعودة، بالرغم من عدم توفر نتائج واضحة، وقد يكفيهم الوعد ببذل الجهود المخلصة، لكنّ عدم إحراز أي تقدّم سيشكل صدمة لهم، ومن ثم، سنعود للحلقة المفرغة من الصراع.

سادسًا: إعادة البناء

هذه قضية شائكة أخرى ترتبط -بشكل أو بآخر- بمسألة العدالة الانتقالية، فبدون إعادة الحقوق لأصحابها، سنكون أمام عقبات قانونية واجتماعية وتنظيمية لإعادة البناء. فقد تكون الشركات القادمة للمساهمة بإعادة إعمار ما تهدّم تحت طائلة المساءلة بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ما لم تكن البيئة القانونية متوفرة لعملها، وهذه البيئة لا يمكن أن توجد دون عدالة انتقالية. فإعادة إعمار المناطق التي تمّ تهجير جميع سكانها، كما حصل في القصير وداريا مثلًا، بدون أخذ حقوق أهلها بالحسبان، ستكون مساهمة في جريمة حرب واضحة الأركان والمعالم، هي جريمة التهجير القسري.

سابعًا: ترسيخ أسس البناء الديمقراطي

هي أيضًا نتيجة مطلوبة من مشروع العدالة الانتقالية، فلولا المحاكمات التي جرت في اليونان، بعد التخلص من الدكتاتورية، ولولا لجان الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا، مثلًا، لما تمكّنت أسس الديمقراطية من الثبات. إنّ القبول المجتمعي هو أساس الشرعية الداخلية لأي نظام سياسي جديد، وبدون إحساس المواطنين بالرضى عن معالجة آثار الانتهاكات، سيبقى لديهم معارضة لنظام الحكم، وقد تصل إلى المعارضة العنيفة، وهذا قد يودي بأسس البناء الديمقراطي ويمنع تشكله كليًّا.

ما الذي يجدر بنا فعله الآن استعدادًا لتلك المرحلة أولًا، ولتحسين فرص واحتمالات حدوثها ثانيًا؟

بلا شك، يمكننا القيام بالكثير، فنحن بحاجة في المرحلة الراهنة إلى القيام بمراجعات نقدية جريئة وشفافة لمجمل مسار الثورة السورية أولًا، ثم علينا أن نشخّص أسباب التعثّر والفشل، وأسباب العزوف عن المشاركة الشعبية بصناعة التغيير ثانيًا. وكخطوة ثالثة علينا أن نضع خارطة طريق لإعادة ترتيب أولوياتنا. تبدأ هذه الأولويات بإعادة هيكلة الأجسام السياسية الممثلة لقوى الثورة والمعارضة، وإعادة بنائها على أسس سليمة وفق قواعد الحوكمة الرشيدة. ثاني الأولويات هي تغيير خطابنا ليرتقي إلى مستوى الخطاب الوطني الجامع. يجب أن يستوعب خطابنا الجديد كلَّ السوريين، حتى أولئك الذين لم يكن لهم مشاركة في الثورة، وأولئك الذين انحازوا إلى النظام، وحتى من ساهم في ارتكاب الجرائم. وكل واحدة من هذه الفئات لها خطاب خاص بها، فالمجرمون مثلًا يجب أن يعرفوا بأنّ التفوق الأخلاقي لقيم الثورة، التي هي ذاتها قيم العدالة والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية، ستمنع السوريين من الانتقام، وستؤمّن للمجرمين منهم محاكمات عادلة، بالرغم كم أنهم حرمونا منها، بل حرمونا من أبسط مستلزمات العيش.

يمكننا الآن، حتى تلك اللحظة التي يبدأ فيها الانتقال السياسي -إن حصل- أن نفتح للنقاش العلني كلّ المواضيع المتراكمة، ويمكننا أن نبني منظمات مجتمع مدني سوري مهنية متخصصة بشكل احترافي، وأن نحاول الابتعاد قدر الإمكان عن شكل المنظمات العاملة الآن في سورية وفق أجندة الممولين والداعمين. سيكون لهذه المنظمات شأنٌ كبيٌر في المستقبل، شريطة أن تكون سورية المنشأ والقرار والتبعية والبرامج، حتى وإن كان تمويلها خارجيًا.

ماذا لو فرضت التسوية السياسية حلًا لا يسمح بقيام عدالة انتقالية؟

سيكون علينا أن نتوقع ذلك، لأنّ مجمل التطورات تشير إلى أنّ التسوية ما زالت بعيدة المنال، وحتى لو اقتربت، فهي لن تكون بالشكل الذي يلبي مطالب السوريين العادلة. هنا علينا أن نتوقع انتشار حالات الانتقام الفردي، وهي جارية الآن بكل الأحوال. كما علينا أن نتوقع بقاء الأحقاد والضغائن لفترات طويلة، قد تتحوّل إلى مظلوميات تاريخية جديدة.

لذلك، لن يكون من السهل رأب الصدوع المجتمعية، وعلينا أن ننظر إلى البدائل الممكنة والمتوفرة، والتي يمكن أن يكون من بينها اللجوء إلى المصالحات الفردية والعشائرية والدينة بمعرفة الوجهاء ورجال الدين. وإذا توفّر الحد الأدنى من حرية الاعتقاد والرأي والتعبير، فيمكننا العمل على النفس الطويل لتثبيت القواعد والقيم المجتمعية من خلال الصحافة ووسائل الإعلام والتواصل المختلفة، وعلينا ألا ننسى أنّ الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب لا تسقط بمرور الزمن، مهما طال، ومن ثم علينا التحلي بالصبر لمحاكمة من يتبقى من المجرمين حتى ذلك الوقت موجودًا على قيد الحياة، ولنتذكّر أنّ ألمانيا فتحت في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021 محاكمة لواحد من آخر المتهمين بجرائم الحرب النازية، ممن بقوا على قيد الحياة، مع أنه يبلغ الآن مئة عام من عمره[13]. وسبق أن حكمت المحكمة الإقليمية في مدينة هامبورغ الألمانية متهمًا آخر بالسجن لمدّة عامين مع وقف التنفيذ، مع أنه كان قد بلغ من العمر 97 عامًا في وقت المحاكمة[14].

[1] ساندرا سيريرام – العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – تقرير موجز رقم 1 لمجموعة العمل – مركز الدراسات الدولية والإقليمية 2018 ص 1 – جامعة جورج تاون قطر.

[2] المركز الدولي للعدالة الانتقالية – تاريخ الاقتباس من الموقع الإلكتروني في 23/11/2021 من الرابط التالي: https://www.ictj.org/ar/about/transitional-justice

[3] المادة الأولى من القانون الأساسي التونسي رقم 53 تاريخ 24/12/20213 الخاص بإرساء العدالة الانتقالية

[4] العدالة الانتقالية ودور الأمم المتحدة في إرساء مناهجها – صفحة 28 -عامر الجبوري – المركز العربي للنشر والتوزيع – طبعة 2018

[5] كريستوفر كي لامونت – العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – تقرير موجز رقم 9 لمجموعة العمل – مركز الدراسات الدولية والإقليمية 2018 ص 1 – جامعة جورج تاون قطر.

[6] الدكتور خميس حميد والدكتورة همسه خلف – مجلة دراسات دولية – العدد 61 – صفحة 105

[7] سوزان والتس – العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – تقرير موجز رقم 5 لمجموعة العمل – مركز الدراسات الدولية والإقليمية 2018 ص 5 – جامعة جورج تاون قطر.

[8] سامية يتوجي – العدالة الانتقالية كمصدر لتعزيز الحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان – رسالة دكتوراه لعام 2019 – كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة محمد بن خضير – بسكرة – صفحة 73 – 75

[9] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن العدالة التصالحية – المجلس الاقتصادي والاجتماعي – لجنة منع الجريمة والعدالة الجنائية – الدورة 11 – فيينا بين 16 – 25 نيسان 2002 – الرقم المرجعي E/CN.15/2002/

[10] هند مالك حسن – أسعد عبد الرضا – العدالة الانتقالية – دراسة في المفهوم والآليات – مجلة العلوم السياسية – العراق – العدد 59 لعام 2020 – ص 132 – 133

[11] سحر عزيز – العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – تقرير موجز رقم 21 لمجموعة العمل – مركز الدراسات الدولية والإقليمية 2018 – جامعة جورج تاون قطر.

[12] د. حميداني سليم – مسار العدالة الانتقالية ومقاضاة مرتكبي الإبادة الجماعية في كمبوديا – مجلة جامعة 8 ماي 1945 – قالمه – العدد التاسع – المجلد الثاني، صفحة 1100

[13] إندبندنت عربية – ألمانيا تحاكم النازي يوزف شوتز – 7/10/2021 _ تم الاقتباس من الرابط التالي بتاريخ 26/11/2021: https://www.independentarabia.com/node

[14] دويتشه فله – محاكمة النازي برونو. د – 23/7/2020 – تم الاقتباس من الرابط التالي بتاريخ 26/11/2021:

https://www.dw.com/ar/

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *