يعتبر مفهوم التعبير عن الرأي من الدواعي الأساسية، والمهمة للمطالبة بما ينفع، وللدفاع عن أي قضية يتبناها أي فرد أو تكتل، ومنه تنطلق الدوافع لتحقيق النصر لأي فكرة، والصدح بما يجول في داخل كل فرد، فهو شاملٌ لكل مستويات المجتمع بدءاً من الفرد مروراً بالعائلة حتى نصل لأعلى المستويات.
وعلى مر الأزمنة عانى الكثير من المنادين بالحريات والإصلاح للقمع والملاحقات، حتى أن الموت بالاغتيال طال الكثيرين منهم، ومن هنا كان من الضروري التحدث عن حرية التعبير والرأي في سورية، كنموذج يعتبر من أوضح النماذج التي قمعت فيها الحريات، وكممت الأفواه.
منذ تقلد حافظ الأسد السلطة ضمنياً عام 1970 بانقلاب عسكري، ومن ثم علنياً عام 1971 بعد مهزلة انتخابية، بدأت مرحلة جديدة في سورية، وهي مرحلة قمع الحريات، ورفض أي رأي يعارض مصالحهم، والتغييب القسري لكل من ينطق بما يخالفهم مستعيناً بقانون الطوارئ الذي كان فرض عام 1963 ويسمح باعتقال الصحفيين، والإعلاميين، والمعارضين، ويعمل على تكميم الأفواه التي تنطق، وذلك بأبشع الطرق الترهيبية واللا أخلاقية وإحكام القبضة الأمنية على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وانحصاره بقناتين، أو ثلاثة.
واستمرت هذه الحقبة حتى تولي وريثه بشار السلطة بالتزوير، عبر تعديلات سريعة للدستور، وتبعها حجبٌ لوسائل التواصل الاجتماعي بعد انطلاقها كالفيس بوك واليوتيوب وتوتير، وما لحقهم من وسائل تواصل أخرى.
وإبان انطلاق الثورة السورية، ومع تقدمها شهراً بعد آخر لاحقت آلة القتل الأسدية الإعلاميين والمخالفين للنظام بالرأي، سواء بالقصف أو الاعتقال، وبدأت حالات الإخفاء القسري والاغتيالات تتوالى سواءٌ جماعيةٌ أو فردية.
وكما قال محمد الماغوط، إن “حرية التعبير، والكلام، والمعتقد مضمونةٌ لجميع فئات الشعب، ويستطيع أي مواطن عربي في أي بلد عربي أن يدخل على أي مسؤول، ويقول ما يشاء، ولكن متى يخرج فهذه مسألةٌ أخرى”.
ومما سبق نرى بشكل جليّ أهمية حرية التعبير والإفصاح عن الرأي، ودورهما الكبير في زعزعة كل سلطة دكتاتورية، ومدى تأثيرها على الصعيد المحلي، والدولي حيث تعتبر حقاً من حقوق الإنسان وفقاً لما نصت عليه المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، والتي نصت بالمجمل على أن لكل شخص الحق بالتعبير عن رأيه، والتمسك به دون تعرضه للمضايقات، وتبنيه للأفكار وتلقيها ونقلها للآخرين دون وجود أي اعتبار للحدود.
وهنا نطرح سؤالين موجزين:
الأول: ما هو مدى تطور وتوسع مساحة حرية التعبير عن الرأي في ظل الثورة السورية؟
الثاني: مدى فهم الشارع العام والخاص لمفهوم حرية التعبير عن الرأي، وكيفية استخدامه لخدمة مصالح الثورة السورية، وسورية مستقبلاً؟
وللإجابة على السؤال الأول يكفينا أن نطّلع بشكل بسيط على الزيادة الواضحة في نسبة الإعلاميين والصحفيين والقنوات الإخبارية والمواقع الإلكترونية التي انطلقت عقب الثورة السورية، وأصبحت تعنى بهذا الأمر وتصدح بالآراء دونما تقييد، متمسكة بما تنقله، وتصوغ أخبارها وفق حقائق، وأمور واقعية، ولا ترى في ما يتبعه من عواقب عائق يمنعها من نقله.
وأما السؤال الثاني فهنا نرى جلياً كسر حاجز الصمت لدى الشعب خاصةً، والإعلاميين عامةً في نقل آرائهم وطرحها، سواءً عن طريق الكتابة على منصات وصفحات التواصل الاجتماعي أو مقابلات تلفزيونية، وأيضًا مشاركة العديد من الإعلاميين السوريين المعارضين في برامج تلفزيونية وقنوات إخبارية لها وزنها في الساحة الإعلامية.
ورغم كل ما سلف من توسع بالآفاق وكسر للجمود الصحفي والصدح بالآراء، إلا أنه ما زال هناك بعض التضييق الإعلامي في الداخل السوري، فالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام ما زالت تعاني من نفس الطامّة والتضييق، أما في مناطق سيطرة المعارضة فما زالت الضوابط التي تحكم الإعلام خاضعةً لكل جهة في أماكن سيطرتها وتحاول كلما سنحت لها الفرصة أن تخفي الجانب الذي يتحدث عنها سواء بإغلاق مراكز الإعلام أو إيقاف بعض الإعلاميين عن العمل أو عمليات الاغتيال التي تطال الناشطين كاغتيال الناشط أبو غنوم.
وكل ذلك يندرج إما ضمن دواع أمنية لمنع تصوير الأماكن الحساسة للفصائل سواءٌ عن قصد أو غير قصد، وهو سببٌ مقنعٌ بعض الشيء، ويلزمه بعض الضوابط الإعلامية، أو لأسباب أخرى كالتسميات التي تطلق على الفصائل العسكرية المتواجدة مثل (مليشيات أو مرتزقة) على القنوات الإخبارية، وهذا برأيي يضر الصالح العام للثورة لأنه يدفع لإثبات تهم الإرهاب علينا دولياً، ويضعف من شوكة الثورة السورية على طاولات المفاوضات مما يستوجب الجلوس، والتفاهم على رأي معين لإطلاق التسميات.
ومن أهمية حرية التعبير عن الرأي أنها تطلق اللسان للتحدث عن كل فكرة متبناة سواء كانت صحيحة أو مغلوطة، وسواء كانت ضد جهة دولية كالمجاهرة بشكل علني وصريح بالتخاذل الدولي تجاه ما يحدث في سورية، أو ضد جهة محلية كمعارضة الشعب لتصرفات وتعامل قوى المعارضة الخارجية فيما يخص الوضع السوري.
وتتيح حرية التعبير للجميع، وخاصة الشعوب، الإفصاح عن معارضتهم للحكومة، عندما تتنافى قراراتها مع قيمهم وما يخدم مصالحهم، كما حدث في سورية ودول الربيع العربي، وما يحدث في إسرائيل مؤخراً من تظاهرات ومطالبات باستقالة حكومة نتنياهو بسبب قراراتها، أو ما حدث في فرنسا من خروج لأصحاب السترات الصفراء مطالبين بالإصلاحات، وما يحدث الآن من تظاهرات ضد قانون التقاعد الذي عدلته الحكومة الفرنسية، كل هذا يندرج ضمن حرية التعبير عن الرأي، ووفقاً لما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وأخيرًا لا يسعني القول إلا أن الثورة السورية بدأت برأي، وهو المطالبة بالحرية والتحرر من براثن الدكتاتورية الأسدية، وتطور الرأي لفكرة، واستمرت حتى الوقت الحالي، ولأجل استمرارها يجب أن نقبل أننا نعيش في وطن كثر ناسه، وكثرت الأفكار فيه، وتعددت فيه الانتماءات والطوائف والقوميات، ولكل منهم الحق في التعبير عن رأيه بما يخدم مصالح سورية أولاً، ويحفظ له حقوقه وحرياته ثانياً.
وفي حال تمسكنا بعقلية جامدة كالعقلية البعثية التي رسخها حافظ أسد، ومن ثم لحق به ابنه بشار فإننا سنبقى مقيّدين منساقين ومقادين للرأي والقرارات الخارجية التي لا صالح ولا رأي لنا بها أبداً.