صنعتْ الكاميرات نسخاً عديدة منا على مر الوقت، منذ كنا أطفالاً إلى اليوم، أمام كل هذه الوجوه المُخزّنة في صور.. نبحث نحن السوريون عن وجهنا الضائع، وعن آخر ابتسامة حدثت بالفعل.
دخل رجل أحد المحال التجارية في دمشق، اشترى بيضتين وزيت أبيض، بقيمة 10 آلاف ليرة سوريّة، وهو ما يساوي أقل من نصف ليتر. دفع النقود للبائع بتردد، حمل مشترياته واتجه نحو الباب، وقبل أن يخرج سقطت من يده بيضة وانكسرت، التفت الرجل نحو البائع بهلع، كأنه فقد شيئاً ثميناً، ما أجبر البائع تقديم بيضة بديلة له كتعويض.
ردد البائع: “تنيناتنا خسرانين! هالبيضة المكسورة رح تستهلك مواد تنظيف أغلى من سعر البيضتين سوا”. وأشار إلى كاميرة مراقبة في ركن المحل، وأكمل: “شايف هالكاميرا؟!، عم تلتقط مشاهد للناس ما بتتصدق، لو بدي اعرضها على التلفزيون، بيطلع أحلى مسلسل كوميدي”. ضحك البائع وهو ينظف الأرض، بينما أنظر بدوري نحو كاميرا المراقبة بخشية..
ابتسم للكاميرا
تعيدني ذاكرتي كلما رأيت كاميرا مراقبة نحو طفولتي، حين كنت صغيراً، كلما دخلت إحدى المحال التجارية، كنت كطفل -وبينما ينشغل الكبار عني- أحاول استكشاف الأشياء من حولي، أتفحص المكان دون رقابة، أدور في الجهات، أمسك أكمام الثياب المعلّقة، ألمس حبوب البقوليات المعروضة للبيع، أحركها بإصبعي، وأتذوق منها إن لزم الفضول، أغوص المكان كأنه مساحتي الخاصة، وإن رأيت كاميرا مراقبة في إحدى الزوايا أقف أمامها متقصداً الظهور، أُحدّق بها أكثر وأمد لها لساني كنوع من اللهو، وقد آخذ وضعيات تصوير بينما يضحك الكبار من حولي استحباباً بتصرفاتي، تكرر المشهد في صغري حتى عرفت القراءة والكتابة، عندها أصبحتُ أكثر خجلاً أمام الكاميرات، فعبارة “ابتسم للكاميرا، أنت مُراقب” كانت تحكمني، تشعرني أن المكان ينظر نحوي ويراقب أي تصرف أفعله، هذا التكرار جعلني أقل مرونة مع نفسي والمحيط، تجمّد شيءٌ داخلي حتى سقطت حريتي الصغيرة، وأصبحتُ أقف أمامها بصمت وحذر، بينما أتخيّل الكاميرات التي تشير إليّ والأعين التي تلاحقني باستمرار.
حينها كان التصوير بالنسبة لي أمراً بسيطاً، أقف حراً كما يحلو لي، أبتسم وأركض وأضحك.. بينما يقف المصوّر على بعد مسافة منّي، وبنقرة واحدة يُحفظُ وجهي في ورقة ملونة صغيرة.
بمرور الوقت أصبحت صناعة صورة كهذه أمراً أصعب، عليّ أن أجهز نفسي، شكلي، ثيابي، شعري، وضعية الوقوف، ابتسامتي… وقد نعيد التصوير مرات عدة لو شعرت بأن الصورة لا تشبهني.
تَركتْ صور الكاميرات ابتسامات جامدة في ذاكرتي، منحتني تخيلاً أوضح عن ذاتي وشكلاً ربما لا يشبهني بالفعل، بينما أشاهد نفسي عبر هذه اللقطات، أدركتُ أنّي قد أتبع لشخص ثانٍ وثالث وربما أكثر، أنا والكاميرا وانعكاسي في المرآة، أمام هذه الوجوه الثلاث… اكتشفتُ أنّي شخصٌ يخشى الكاميرا والرقابة ورؤية نفسه من انعكاسٍ خاطئ.
الوجه السوري.. وجهي الأول
نحاول اليوم جميعاً كسوريين الخروج من وطأة الحرب، من تحت غطاءات ثقيلة، من التفكير والترقّب وخوفنا الطويل، التصقتْ هذه الصفات بنا حتى أصبحت منا، اعتدنا العيش بانخفاض وخجل، وكأن المكان من حولنا مؤقت، وسنفقده في لحظة ما، كما فقدنا مساحتنا الخاصة، ما جعلنا عرضة للانكشاف طوال الوقت، كما لو أن المسافة التي كانت تفصل بيننا وبين المصوّر قد اختفت، وأصبحتْ الكاميرا كائناً أقرب مما يبدو.
ما بين الكاميرا وانعكاسنا… أين نحن بالضبط؟، يشاركني هذا التساؤل جيلٌ كاملٌ حاول حراسة نفسه من المحيط، تعلّمَ كيف يمسك وجههُ ويهرب به كلما شعر بالخطر، ندركُ أن وجوهنا قد تغيرت ولم تعد ملكنا، لم تعد تشبهنا اطلاقاً، لكننا لا نرغب تصديق ذلك، لا نرغب تصديق المسافة التي فصلتنا عن أنفسنا، وصنعت مكاناً ونسخاً بملامح لا تشبهنا.
أجل… لا خصوصية لسوريا، هذا البلد الذي توجّهت كل أنظار العالم نحوه، كل الكاميرات والفيديوهات والتوثيقات، ظهر في أكثر حالاته بؤساً دون احترام خصوصيته، بأنَ وجوه أبنائه الحزينين والمتعبين، نُشرتْ صورهم على منصات العالم دون إذن، أحدثنا شفقة وبقينا في مسرح العرض، تحت أضوائه الساخنة وصوت التقاط صوره.
أمام كل ما حدث ما كان علينا سوى أقلمت التصرف على هذا الأساس، حتى صرنا نتحسس المكان ونخشى اقتراب أي كاميرا نحونا، فالداخل السوري مادة إعلامية دسمة لجلب المشاهدات، خصوصاً خلال الحرب التي امتدت لأكثر من 13 عام، تناوب الجميع على شدّنا نحوه، استغل خَدَرنا ووجهنا وصوتنا، استطاعوا تحريكنا بما يناسبهم لصنع مشهد مؤثر.
ومن كاميرات المراقبة إلى كاميرات التصوير مروراً بكاميرات المنصات الاجتماعية المنتشرة في الشوارع اليوم…، تَعبُر هذه المشاهد في ذاكرتي كشريط “النيجاتيف” الذي يُلحق بألبوم الصور بعد تحميضها، شريطٌ فيه كل وجوهنا القديمة.
أين الكاميرا؟
اتسعت مؤخراً رقعة المنصات الاجتماعية على مواقع التواصل، منحها نظام المجتمع الالكتروني مجالاً كبيراً للعبور، صدّقها وسمعها وصفق لها بداية الأمر، باعتبارها منفساً من واقعه الخشن، الحاجة للاستمتاع والضحك أفرزت برامج مصوّرة تحت مسمّى (منصات الواقع الاجتماعي) وكانت فرصة كبيرة للتأثير في المشهد الرقمي السوري، حيث تحاول اليوم بعض هذه المنصات توجيه الانتباه لحالة أُخرى من الوجه السوري: الوجه الكوميدي والساخر.
تحولت هذه الصناعة بسرعة كبيرة من مجرد مزحة إلى ضوضاء في شارع قلق ومتشنج أساساً، وهذا أمر غير صحيّ لمكان فُقِدت فيه معاني الأمان والاستقرار، لا يمكن إظهار السوري بوجهه الخائف والمتعب منذ عشرات السنوات وإيقاعه في سياق تجريبي تمثيلي تحت مسمى التجربة والمزاح، فالاقتراب من الحدث لا يشبه رؤيته من الخارج، كيف سيتعرف العالم الخارجي على الشارع السوري اليوم من خلال هذه الفيديوهات المفبركة والسريعة والغير محقّة في اختصاره وتقديمه على شكل “كاميرا خفية”؟!
حتى وإن كانت هذه المنصات الالكترونية ذات هدف إيجابي في بداية الأمر لكنها سرعان ما مالت وذهبت نحو زاوية مستعارة ولا تشبهنا، الاستخفاف بالعاطفة السورية أمر يستدعي الوقوف، والأزمات التي عبرت على المنطقة تستحق معاملة مختلفة…
إضحاك الإنسان السوري مهمّة اختصاصية تحتاج مهارة عالية، لا تحتمل تطبيق قوالب جاهزة عليها، الاحراج والازعاج والتعصيب ليس أمراً مضحكاً لشخص يعيش داخل بلد منهك.
أمشي اليوم في الشوارع كمعظم الشباب السوريين، أتلفتُ من حولي ظناً بأن أحداً ما سيخرج في وجهي ويوقعني في مشهد كوميدي، كلما رأيتُ أحداً يحمل ميكرفوناً وكاميرا ابتعدتُ عنه قدر المستطاع، لا أريد لأحد أن يقتحم خصوصيتي ليسألني في الشارع مثلاً: “هل أنت صائم؟”، أو يطلب مني تنفيذ تحديات مقابل مردود مادي، فينصاع معظمهم مهما كان الأمر محرجاً.
المنصات الاجتماعية والحرب
يحاول السوريون اليوم استعادة الحياة من فم الحرب، بذات القوة والقسوة، ما تم أخذه يرد بنفس الطريقة، هذه القاعدة يعيش على أساسها معظم السوريين، رغم الخمود الذي يبدو على ملامحهم إلا أن لديهم استعداد للاستمرار وصنع معارك صغيرة، كالحصول على ربطة خبز، أو أخذ دور في طابور، أو الصمود لنهاية الشهر براتب واحد… هذه المشاهد وغيرها الكثير يمكن رؤيتها في كل زاوية من البلد، اعتاد الجميع التعايش معها والعبور أمامها وتجاهلها بأفضل الحالات، لكن ما أن يتحول أحد هذه المواقف لمشهد تمثيلي رخو على المنصات الالكترونية حتى تنهال عليها ملايين المشاهدات، وتصبح قضية رأي عام وترند على السوشيال ميديا بين مؤيدين ومعارضين لهذا المحتوى، فالجموع توجه نحو أي حدث مستعار، وهنا تكمن المشكلة! الاستهجان لموقف ما يعني ندرته، والانبهار بفعل جيّد يعني فقدانه، وهذا مؤشر إلى أن الشارع السوري فقير لمواقف حقيقية نابعة عن رد فعل إنساني وطبيعي دون رقابة الكاميرا، ودون أن يحاول الفاعل تقديم نفسه بطلاً أمام الناس.
منحتْ هذه المنصات صوتاً لمن لا صوت لهم وأعطتهم فرصة للتعبير، وبما أن معظم الوسائل الرقمية تفتقر لوجود أحكام لضبط المعايير المهنية في سوريا، أحالت بعض الآراء الفردية والهشة إلى وجهات نظر شخصية يمكن الدفاع عنها، وأدى نقلها إلى العلن وتفاعل الجمهور معها لجعل العالم الواقعي عبارة عن افتراضات ووجهات نظر لا أكثر، كما فعلت وسائل الإعلام الرسمية والمتخصصة سابقاً بتصفية الأحداث وعرضها حسب توجهها السياسي، وهذا بدوره أدى إلى تلاشي الواقع السوري شيئاً فشيئاً.
في محاولة البقاء وسط هذه الظروف، كان الاعتياد جزءاً من الروتين اليومي في سوريا، والاعتياد السوري أسلوب معيشي يشبه التمثيل بالنسبة لنا، هكذا أصبح السوريون يمثلون في حياتهم وطرق تعبيرهم، يمثلون بأنهم أحياء وسعداء.. يمثلون بأنهم نجوا فعلاً من كل ما حدث.
لطالما رغبنا نحن السوريون أن يكون كل ما يحصل من حولنا مجرد “مقلب”، التسارع الذي أحال البلد ومن فيها إلى بانوراما صراع علنية ليس سهل التصديق أو الفهم، نتمنى لو أن كل ما يحدث لنا مجرد تجربة مصوّرة، ننتظر تلك اللحظة التي ينتهي فيها التصوير، نبحث فيها عن الكاميرا الخفية من حولنا.. بينما نضحك ونشير لها من بعيد.
_نبذة عن المقال “الخوف من الكاميرا… ثلاثة وجوه سوريّة لشخص واحد”:
(هي مادة ذات إسقاط بانورامي على الشارع السوري، يتتبع المقال الوجه السوري وانعكاساته خلال الحرب، وعلاقته مع الكاميرا كعنصر أساسي لازمنا طوال هذه المدة، وكيف تحوّل المشهد السوري إلى خدعة أمام هذه الكاميرات، في حين أن الواقع الحقيقي اختفى وراءها..
فكرة المقال تركز على تأثير الإعلام في الداخل وكيف تلاشى الواقع السوري أمام الأجندات السياسية للجهات الإعلامية. يطرح المقال سؤالاً: ” ما بين الكاميرا وانعكاسنا.. أين نحن بالضبط؟ هذا التساؤل البسيط محاولة لفهم المسافة التي فصلتنا عن أنفسنا، وصنعت مكاناً ونسخاً بملامح لا تشبهنا)