هو ليس بخير، دائماً ما يندم على موته بتلك الطريقة، يفكّر طالما يتنبأ بموته على سبيل حلمين في ثلاثة أسابيع متتالية، لمَ لا يعيد ترتيب الجنائز؟
توفي أول مرّة بسهم رماه مقاتل فارسي على الطريق الواصلة بين يافا والقدس، فمات وهو يجر دابته ليحرث أرضا له، وكان في حوزته تسع قطع نقديّة، خبأها في شق جدار خلف نوله الخشبي في مشغل حبال القنّب، قبل أن يُدفن تحت ذات الجدار إثر سقوط قذائف المنجنيق.
طافت روحه كثيراً، تتبعت عشب الحقول، لعله ينتصر عليها، حفظ خرائط جذورها، وطرق نموها، قبل أن تهبط روحه في بيت ثريٍّ دمشقيّ.
البيت كبير وضيّق على أفقه البريّ، غرفٌ كثيرة تنتهي إلى بهوٍّ كبير فيه معبدٌ بلا صلبان، بكى في عيون الطفل الذي تقمصته روحه، تعلم شؤون التجارة، وحفظ طرق الهند وحلب والموصل واليمن عن أبيه، لحين ما أتاه الحلم الأول من سلسلة الأحلام التي تُنبّئه بالموت، وكان على مسير ليلتين في قافلة محملة بالحرير الدمشقي صوب اليمن، حيث رأى معبداً دون محاريب، تتقاذفه صِبيةٌ ككرة صوف، فيسقط فوق ثلاثة معابد ويكسر محاريبها.
بعد وصوله مأرب رأى الحلم الثاني، بقي أسبوعان على موته، فسابق الزمن ليبيع بضائع والده، ويرسل القافلة، ليتفرغ لإعداد جنازة كريمة، ولكن مجموعة قرود على شجرة قات، أجفلت فرسه فوقع على صخرة ومات.
عادت لتطوف روحه مرة أخرى، تعلّم أسس التجارة الحديثة في الهند والموصل والشام، وحفظ طرقاً لم يعرفها من قبل، إلى أن سالت روحه في جسد صبيٍّ نحيل على أطراف بغداد.
وكعادته في كل ولادة من خلال بكائه الأول يكتشف محيطه الجديد، قال في نفسه هذه مهنة جديدة، صناعة الفخار.
صار يحمل لأبيه الأواني الفخارية التي يصنعها، حتى تعلم الحرفة وارتقى إلى صانعي فخار القصر، كان منهمكاً بتصاميمَ جديدةٍ تليق بالأمراء، فلم يعرْ أيّ اهتمامٍ يذكر لحلم الصبية والمعابد، قبل أن يفاجئه الحلم الثاني، بشارة موته الثانية، الصبية الذين كانوا يتقاذفون المعبد، يجمعون حجارة المعابد الأربعة، ويبنون منها طاحوناً على نهر مألوف له، لكنه لم يعرف مكانه.
حاول ترتيب جنازة له ومكان يليق بدفه، قبل أن يسقط في الوادي الذي كان يجمع منه التراب المناسب للفخار في بغداد، فكسرت رقبته ولم يستطع الفرار، ورُميَ في نهر دجلة مع كتب وناس كثر، في يوم لم يستطع تقديره.
عادت روحه لتحوم فوق المدن والقرى والصحاري، تذكّر في أيامه الأولى صناعة الفخار والتجارة والفلاحة، لكنه لم يشأ أن يعود للحياة المتجدّدة، واختار المبيت فوق الغيوم، يطوف ليلاً وينام نهاراً فوق سحب عابرة، ونسي أحلامه وموته وجنائزه، وصار يتتبع السحبَ الدافئةَ المتفرّدة الحابسة مطرها لينعم براحة أطول، ويراقب الناس من علوٍّ، فرأى المدن تكبر والحياة تتطور بسرعة كبيرة.
ذات ضحى دافئة، أحس أن نتفاً من السحابة التي ينام عليها تدخل في رأسه خلال أذنيه وفمه، مُشكّلةً رؤى حلمٍ جديد، صبية يبنون طاحوناً تطحن أطفالاً ونساءً ورجالاً ومدناً، تطحنهم حجارة الطاحون، وتسحّ مرة غيوماً ومرة حجارةً، وتارةً تخرج حروفاً تشكل كلاماً لا معنى له.
أفاق مذعوراً من نتف الغيم والحلم الجديد، ولكن ما زال يرى الحلم كأنه واقع، الناس تدهسهم حجارة الطاحون، لمح أناساً يشبهون أهله وجيرانه وزبائنه والخيل والأمراء والمحاربين في حيواته السابقة، حاول أن يكلم أحدهم دون جدوى.
ظل جاثياً على غيمته يفكر كيف يخرج هذا الكون من رأسه، يراقبهم حتى لاحظ أنهم يَلِجون الطاحونة كلّ فئةٍ مستقلة عن مثيلتها، وكذلك يخرجون، فالرجال يخرجون حجارةً، والأطفال غيوماً، أما النساء تتشكل حروفا وكلمات.
استطاع أن يفهم أنّ هذه النساء تؤرّخ حزن الحروب بكلمات من لغات ولهجات قديمة وجديدة، قرأ عن حروب كبيرة، مات فيها محاربون عظماء وأطفال ونساء بقذائف ناريّة، وآخرون ماتوا بالروائح، تعجّب كيف للرائحة أن تقتل وهو لم يخبر إلا روائح الطين والربيع.
يعلو صخب الكون الذي يدور في رأسه، وبدأت نتف الغيوم تنزّ من أذنيه رجالاً ونساءً بأحجام صغيرة ولطيفة، استطاع أن يحادثهم ويفهم أن هذه الغيمة التي اتخذها مخدعا، هي الغيمة الموكلة على تقمص روحه، إلا أنه يجب أن يحيا في الأرض آخر مرةٍ ليموت، فقد انتهى دوره في الحياة الخالدة، وأنّ هذه الكائنات العجيبة جميعهم موتى من أزمنة غابرة، مازالت أرواحهم تطوف بين الأرض والسماء متعلقةً به بشكل وآخر، وعليه أن ينهي أعمالهم قبل ميتته الأخيرة.
في ليليةٍ ربيعيّةٍ دافئة، هطلت هذه الكائنات برفقته على أرض حنطة، لم يعرف المكان في البدء لدهشته بتحول تلك الكائنات الصغيرة إلى أناس عاديين، ثم غابوا في المدن والقرى القريبة، أطباء، ومهندسون، وفلاحين، وعمّال.
بات ليلته الأولى في بيت مهجور، تغيرت الأدوات والأشياء على الأرض كثيراً، أدرك ذلك بعد مرور عدة أيام قضاها يأكل من حشائش الأرض، ويفكر في الناس العالقة بروحه، وارتباطهم بحياته وأحلامه.
حاول أن يعيد ترتيب الأزمنة والأماكن التي مرّ بها في مخيلته، خطر له أن تحرير تلك الأرواح يبدأ بإعادة صياغتها، فاستعان بمهارته بتشكيل الطين والحبال، وحاول خلق تلك الكائنات التي تشبهنا من طين وقنّب.
قصد قريةً قريبةً، واتّخذ على أطرافها بيتاً، وأعدّ ما يلزم لصناعته، أدهش القرية بدقّة صناعته الفخارية، وذاع صيته في المدن، وطلب منه التجار مواصفات معيّنة لجرارٍ بأشكال كان قد خبرها سابقا، ليبيعوها على أنها قطعا أثريّة، كان يعمل في النهار بصناعة الجرار الغالية الثمن، ويتخذ قطعاً من الليل لتشكيل تلك الكائنات، أعدّ الكثير منها بملامح مختلفة، فمرّة يشكل أمراء بغداد ونساءها وأطفالا، ومرّة يشكل مقاتلين على أفراس، وأخرى عبيداً، وكلهم بأحجام لا تتجاوز إصبع اليدّ، ويجمعها في خوابي أعدها لهذا الغرض.
مرّ زمن طويل على عمله، وصارت تلك الأرواح والأحلام والحيوات مثابة طيف لا يتذكره إلا نادرا، وتركها حبيسة الخوابي في زوايا بيته.
الحياة خارج بيته تستمر والتجار يتناقلون جراره بين الدول ومتاحف الأثرياء حول العالم.
ذات يوم قال له التاجر أن هناك صفقة كبيرة، وأخرج ورقة عليها صورة ملونة لتمثال حجري قديم، أريد نسخة فخارية منه هل تستطيع؟
كأنّه صفعه، صفعة دهشة لم يستطع أن يفيق منها، يعرف التمثال جيداً، المنزل الدمشقي، هذا الإله الصغير على يمين محراب المعبد، يتذكره جيداً، إي إي نعم، سأحاول، أسبوعين ويكون جاهزاً.
تركه التاجر في دوامة ذكرياته التي كاد أن ينساها، تذكر البيت الدمشقي وغرفه ومعبده والمحاريب والتماثيل، تذكر طرق اليمن والقدس والعراق القرود والفرس، الصخور حول السدّ القديم.
أخرج ليلا كائناته الصغيرة من الخوابي، ونثرها واقفةً في بيته كأنها في سوق مدينة كبيرة، ووزّع الجند على جدران البيت كحرس حدود لدولته، ونام بعد أن أتعبته تشكيل الذكريات، أدخله صوت المطر وبرد الشتاء وهاجسه المتجدد في حلم لم يعرف معنى له، وظل طوال النهار يراجع حلمه، تمثال المعبد يمسك قطعاً نقدية، يركب نولاً خشبياً على هيئة حصان، يجول في تابوت كبير.
حاول أن يشغل نفسه، فبدأ بصناعة التمثال بتوجس وخوف كبيرين، وما إن انتهى منه وَضَعه في صدر الغرفة على كرسي خشبي قديم، فصار كملكٍ على عرشه، وحوله تلك الكائنات الصغيرة كالرعيّة.
تملكه خوف كبير في ليلته تلك من هذا التمثال، رافقته حمى شديدة، وهيِّئ له أن مجموعة من الكائنات تتحرك وتتجه صوب التمثال.
لم يستطع التمييز بين الحقيقة والواقع والحمى والحلم، وبعد عدّة أيام دون حراك، والمشاهد تتكرر أمامه، أفاق من مرضه، وكأنه بعث من جديد.
قرّر أن يسهر ليلته تلك يراقب ما يدور حوله، وفعلاً تحركت بعض الكائنات، وكأنها تؤدي طقوس عبادة أمام التمثال الذي بدا وكأنه يشكر لهم عبادتهم.
ظلّ يراقب دون حراك، الكائنات نفسها تتحرك فقط، وتتحدث وتؤدي تلك الطقوس، تحدث إليها، يا إلهي إنها ذاتها التي حدثته عن الغيمة الموكلة على حياته، وشرحت له أنها تنتظر أن تتحرر روحها وتصعد إلى السماء، فهم أنه حرّر الجزء الذي عاشه في دمشق، وأنهم عبيد وتجار وأناس كانوا على صلة به ذات حياة، نام قبيل الفجر ليفيق مذعورا من حلمه الجديد، التمثال، والقطع النقدية، والنول الحصان، والتابوت.
جاءه التاجر صباحا يطلب منه بضاعته، فتعذر أنه لم يستطع إتقانه، وأنه لن يحاول من جديد، سيطرت فكرة الأرواح العالقة عليه، وأصبح على مقربة من تحريرها، يفكر في النهار وفي كل ليلة يعاوده ذات الحلم، النول والتابوت والتمثال وقطعه النقدية.
الصنعة القديمة لا بد من إعادتها، جمع قطعا خشبية وصنع نولاً، وما إن غزل أولى الحبال، حتى بدأت تهتز كائنات أخرى في البيت، دبت الروح في كائنات كثيرة، تتحرك بين يديه تحمل خيوطا صغيرة، تابع عمله، حتى لاحظ أن الحبال بدأت تكثر أمامه، ولا أحد يكترث بها، وهناك كائنات ما زالت فخارية متحجرة لا تتحرك.
في ليلته الأولى ظلّ يراقب هذه الكائنات المتحررة جديداً، والمنشغلة بعقد الحبال.
نام وأفاق من ذات الحلم مذعوراً بالمنظر الذي شاهده، فقد عقدت الكائنات تلك الحبال على هيئة مشانق مرميّة في أرض الغرفة.
في الليلة الثانية، كانت كائناته مشغولة بالتعارف قديمها مع جديدها، اختلطت ولم يعد يميز بينها، وما لفت انتباهه أنّه مشهد متكامل لمدينة تعجّ بالحياة، وما ينقصها إلا الأطفال، فكل الكائنات المتحررة كانت من الرجال والنساء، قام وتفقد التشكيلات الفخارية المتبقية فوجدها بالفعل كلها من فئة الأطفال.
تيقن أن السرّ يكمن في الحلم، التمثال النول، ولكن ما علاقة التابوت والقطع النقدية، فكر استذكر قطعه النقدية التي دفنها في شق الجدار تذكرها جيدا، تسع قطع، تجسّد لوحةَ طفلٍ يحاول الإمساك بيد أمه، التي يبدو أنها تبتعد عنه مجبرة، فسارع إلى تشكيل تلك القطع بالطين، ورماها بين يدي التمثال، ليحرّرَ أخرَ مخلوقاته الطينيّة.
في الليل، ارتفع صخب تلك الكائنات، المحاربون على أفراس، والصبية يتقاذفون بقايا الطين، والنساء يتجولنَ في الأسواق، والرجال ينحتون حجارة ويبنون بيوتاً صغيرة داخل غرفته، وهو يراقب ويفكر في خيطان المشانق تلك، يفكر هل سيموت شنقا هذه المرة؟
مدينته الصغيرة تكتمل بشوارعها وبيوتها وأسواقها ومدارسها، والأطفال يتفننون في اللعب، والنساء صنعت من بقايا القنب أساور وحلي.
اختلطت الأقوام بعضها ببعض، واتفقوا على أشياء، واختلفوا على بعضها، وكانوا يلجؤون لحاكم مدينتهم، التمثال، ليحل قضاياهم الصغيرة، هو يراقب تلك الحياة، ويفكر في المشانق.
امتهن رجلان من مدينته النسيج، وصنعوا نولاً صغيراً على غرار نوله القديم، وآخرون ما زالوا يبنون بيوتا، والمحاربون اتخذوا من النساء رفيقات وكأنهن زوجات لهم.
مدينته الصغيرة تنام نهاراً فخاراً، وتستيقظ ليلا كأرواح.
في ليلة مطيرة، علا صخب المدينة كثيرا، ولاحظ أن مياها تنز من أجساد بعض رجالها، وكأنها جراح، نشب خلاف بين طائفتين حول نولهم الذي صنعوه، والطائفتان تدعي أمام الحاكم أنه النول المصغّر لجدٍّ قديمٍ لهم، مركون في زاوية الغرفة، يقصدون نوله، فأجّل الحكم بينهم وتركهم يتصارعون.
في النهار التالي، نامت مدينته إلا من بعض رجال يجرّون امرأة جميلة متزينة، وقدموها لحاكمهم كهدية، وسألوه أن يحكم لهم بالنول قبل أن يناموا.
تحجرت المدينة كلها بعد قليل، فكّر كثيرا في الأمر وظن أن إخفاء نوله الخشبي الكبير ينهي الخلاف، فدفنه في فناء المنزل، وجلس يترقب الليل ويقظة المدينة.
ضجّت المدينة التي افتقدت النول، وكلّ طائفة تدعي أنه نولها وإرثها، وثقافة قديمة لها، والحاكم يتحيّز لطائفة، ويقرر إعدام بعض الرجال، اجتمع بعض المحاربين وقتلوا اثنين من الرجال الضعفاء، بينما صبيةٌ في المدارس، لم يعجبهم القرار، فكتبوا على جدران مدرستهم “حرية حرية، يسقط الدكتاتور”.
كانت ليلةٌ سوداء غزيرة المطر مرعدة، سال المطر دون أن ينتبه من نوافذ غرفته، أغرق المدينة الصغيرة، ورأى كائناته تذوب في المياه المتدفقة، وتجري خارجةً من أسفل الباب، حاول إنقاذ شيء منها، إلا أنّ السيل أذابها حتى آخرها التمثال، قبل أن يسيل هو معها، ويرقد طيناً على درفة كتاب أسفل نهر دجلة.