عانت البيئة في سوريا بشكل عام من الإهمال وعدم الاهتمام بالقضايا البيئية، وذلك لسبب رئيسي يتمثل في التطور المحدود للقطاعات الإنتاجية في سوريا، والتي كانت محدودة نوعاً ما، ولم تتسبب بضرر بيئي يستدعي الاستجابة.
بعد عام 2005م تغير الوضع نحو الأسوأ، نظرا للطفرة الإنتاجية والعمرانية التي تطورت بشكل ملحوظ، وكانت سبباً ضاغطاً على الموارد الطبيعية في سوريا، وبسبب موجة الجفاف غير المسبوقة التي عصفت بسوريا طيلة السنوات الـ/5/ قبل الثورة.
أنشأت وزارة خاصة بالبيئة، بالمرسوم التشريعي رقم /25/ في العام 2009م، الذي قضى بفصل الاختصاصات التي كانت تتولاها وزارة الإدارة المحلية والبيئة، وإنشاء وزارة خاصة بالبيئة، نظراً للظروف البيئية التي كانت تمر بها سوريا وموجة الجفاف، وحالة التطور التي كانت تعيشها الدولة.
بعد عام 2011 وانطلاق الثورة السورية، واتباع الحل الأمني من قبل السلطة، تدهورت جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية إلى حد كبير، وما زلنا نعاني من هذا التدهور إلى يومنا هذا.
منطقة شمال غرب سوريا هي منطقة ريفية. تشمل أجزاء من محافظة إدلب وحلب وحماة واللاذقية، ويبلغ عدد سكانها بحسب إحصاء 2010 حوالي 2.3 مليون نسمة، وتقدر مساحتها بـ (6500) متر مربع، أما اليوم وبحسب احصائيات فريق منسقو استجابة سوريا، واحصائيات المجالس المحلية المنتشرة في المنطقة فقد بلغ عدد السكان ما يزيد عن 6 مليون نسمة.
الواقع البيئي في شمال غرب سوريا في ظل الحرب:
سيطرت قوات المعارضة السورية على معظم المنطقة في شمال غرب سوريا منذ السنوات الأولى من عمر الحرب السورية، وتعاقبت عليها العديد من الجهات والكيانات العسكرية والمدنية التي حكمت المنطقة، وحلت محل مؤسسات الحكومة السورية، وفي ظل موجات التهجير القسري الذي تسبب في تضخم عدد السكان في المنطقة والضغط على الموارد الطبيعية فيها كنهر العاصي وبحيرة ميدانكي الصناعية، وضعف أداء الحكومات التي تعاقبت على المنطقة، وعدم قدرتها على إدارة الحياة العامة فيها، وتجاهلها موضوع الاستدامة والترشيد باستهلاك الموارد الطبيعية، فقد ظهرت العديد من المشاكل التي ارتبطت ارتباطاً كلياً بالسياسات المتبعة من قبل الجهات الحكومية، حيث تضررت الموارد الطبيعية في المنطقة بشكل كبير جداً، وفق تقارير أممية مما ينذر بكارثة بيئية كبيرة تؤثر على السكان وعلى التنمية في المنطقة.
التدهور البيئي في المنطقة
تشهد منطقة شمال غرب سوريا تدهوراً بيئياً ملحوظاً. ويعاني النظام البيئي من التجاوزات والتدهور في الأراضي الزراعية وتلوث المياه، حيث تتسبب النزاعات والحروب في تدمير المصادر الطبيعية، ورمي نفايات سامة في المنطقة، مما يؤدي إلى انخفاض جودة حياة السكان وتأثيرها على صحتهم..
أولا – المياه:
تعتبر المنطقة فقيرة نسبياً بالمياه الصالحة للشرب وللزراعة، وهذا انعكس على تواجد السكان فيها قبل الحرب، فبسبب التكاليف الكبيرة لاستخراج المياه واستجرارها، فقد هاجرت نسبة كبيرة من اليد العاملة إلى المدن الكبرى كدمشق وحلب، وبسبب افرازات الحرب السورية وتضاعف أعداد السكان وعدم استطاعتهم على التنقل خارج هذه المنطقة، وحالة الحصار المفروضة عليهم، وطول أمد الحرب، دفع السكان إلى استنزاف المياه الجوفية وحفر الآبار الارتوازية بشكل كثيف جداً مما أثّر على مخزون المياه فيها وعلى جودة المياه المستخدمة، ففي مدينة الباب مثلاً هناك أزمة حقيقية تتعلق بمياه الشرب في ظل استنزاف المياه السطحية بشكل شبة كامل، وبسب النمو العمراني العشوائي الذي أدى إلى زيادة الطلب على المياه لتلبية الاحتياجات المتزايدة، وترافق ذلك بعدم قدرة المجالس المحلية من مد شبكات الصرف الصحي، مما اضطر السكان إلى حفر الجور الفنية لتصريف المياه المستخدمة والتي بدورها تسربت إلى المياه الجوفية وأدت إلى تلوثها بشكل كبير وظهور بعض الأمراض المائية في المنطقة مثل الكوليرا.
وفي مدينة عفرين التي تعد من أكثر المناطق وفرة بالمياه، فقد تم حفر أكثر من 25 ألف بئر ارتوازي في المنطقة، وذلك بحسب احصائيات فريق “السلام الأخضر” المتواجد في المنطقة، وأيضاً بحيرة ميدانكي الاصطناعية التي تغذي منطقة عفرين واعزاز بالمياه الصالحة للشرب والري انخفض منسوب المياه فيها إلى مستويات متدنية جداً بسبب زلزال شباط 2023، وبسبب تسرب المياه من جسم السد والمنطقة المحيطة به، وذلك لعدم صيانته بشكل دوري، وعدم صيانة قنوات الري التي يتم هدر كميات كبيرة من المياه فيها.
لم يتم ابداً إصدار أي قوانين أو تحرير أي مخالفات تحد من عمليات حفر الآبار العشوائي في المنطقة، ولا يوجد أي متابعة حكومية لموضوع المياه في المنطقة، ولم تضع المجالس المحلية حداً لعمليات البناء العشوائي خارج المخططات التنظيمية للقرى والمدن مما أثر على المياه السطحية بشكل كبير، وذلك بسب تلوث المياه السطحية القريبة من محاور الصرف الصحي وعدم صيانتها والضغط الشديد عليها.
ثانيا – التربة:
تعتبر منطقة شمال غرب سوريا وخصوصاً المناطق القريبة من الحدود التركية مناطق حراجية غنية بالتنوع البيئي والغطاء النباتي، ويعد ذلك عامل مهم في تنقية الهواء ومنع التصحر وضمان التدفق المائي للينابيع وللمياه الجوفية في المنطقة، ولكن في ظل الحرب تم إزالة معظم الأحراش في المنطقة واستخدام أخشابها في التدفئة، واليوم تعد هذه المنطقة عرضة لعميات التصحر خاصة مع انعدام أي معالجة لها واستصلاحها، لتكون أراضي قابلة للزراعة.
لم تقم الدوائر الحكومية المتعاقبة في المنطقة طيلة سنوات الحرب بأي تحرك يمنع هذا القطع الجائر للأشجار الحراجية، بل كانت على العكس طرفاً في المشكلة، حيث قامت بعض الفصائل بقطع جميع الأشجار الحراجية والمثمرة في مناطق وجودها وتحويل المنطقة إلى صحراء خاوية.
إن من أحد أكثر الأثار السلبية لعملية قطع الأشجار الحراجية، هو تملح التربة لتعرضها لأشعة الشمس بشكل أكبر، وانجراف التربة… كل هذه النتائج تنذر بتحول مساحات واسعة من التربة في هذه المنطقة إلى تربة رملية ستؤثر على عملية التنمية في المنطقة وتخلق مشاكل كبيرة على السكان.
ثالثاً – الهواء:
تعتبر منطقة شمال غرب سوريا المحطة الأخيرة لملايين السيارات التي تم إخراجها من الخدمة في بلادها، وذلك بسبب عمليات استيرادها غير المنظمة التي فاقت حاجة السكان بكثير.
إن قوانين استيراد السيارات في كل بلدان العالم لها معايير معينة تتعلق بتطور شبكة الطرق والمواصلات العامة وانبعاثات الكربون، ولكن في منطقة صغيرة نسبياً مثل منطقة شمال غرب سوريا والتي تحكمها المعارضة، لا يوجد شبكة طرق تتحمل هذا العدد الكبير للسيارات، ولا يوجد شبكة نقل عامة تخفف الضغط على الشبكات الطرقية، ولا يوجد أي شعور بالمسؤولية عن صحة المواطنين، حيث يتم استخدام أنواع سيارات تعمل بالديزل ولم يتم إصدار أي قوانين تحد من هذا الانفلات غير المقبول في علميات الاستيراد والتشغيل للسيارات، مما حول الهواء في المنطقة إلى سحابة من ثاني أكسيد الكربون وأثّر على الصحة العامة حيث رصدت المراكز الطبية في المنطقة زيادة حادة بسرطان الرئة والأمراض الرئوية المرتبطة بانبعاثات الكربون. كما سببت هذه الانبعاثات تلوث التربة وتسممها، ما أثر على المنتجات الزراعة بشكل كبير والتي بدورها أثرت على صحة السكان.
لم تقف هذه الحكومات على عمليات استيراد السيارات التي تعمل بالديزل فقط، بل قامت أيضاً بالسماح لحراقات الفيول البدائية بالعمل في المنطقة لاستخراج الوقود منها، حيث يتم حرق كميات كبيرة من البلاستيك والمواد القابلة للاشتعال والتي تفرز أبخرة سمية لتسخين الفيول وفرز المواد النفطية، فحراقات ترحين المشهورة في المنطقة تسببت في تلوث الجو بدائرة قطرها أكثر من 5 كم، أي ما يعادل ثلث مساحة المنطقة المسيطر عليها من قبل قوات المعارضة.
رابعاً – إدارة النفايات
تضاعف عدد السكان في المنطقة أدى إلى زيادة إنتاج كميات كبيرة من النفايات، ولكن بالمقابل لا يوجد نظام تصريف آمن وصحي لهذه النفايات. وبدلاً من ذلك، يتم حرقها أو رميها في الطبيعة دون أي ضوابط بيئية. هذا الوضع أدى إلى زيادة نسبة التلوث في الهواء بشكل كبير.
تقدر كمية النفايات الصلبة التي يتم التخلص منها بشكل عشوائي في المنطقة بـ 400 طن يوميًا. تلك النفايات تجذب القوارض والحشرات غير المجمعة، والتي قد تحمل وتنقل الأمراض المعدية. هذا يشكل خطراً على الأطفال وجامعي القمامة.
والأمر الأكثر تدهوراً هو أن مكبات القمامة في شمال غرب سوريا أصبحت مصادر رزق لبعض العائلات والأطفال الذين يعملون في جمع القمامة والبحث فيها للعثور على مواد يمكن بيعها أو إعادة تدويرها. هذا يشكل خطراً كبيراً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنفايات الطبية التي تأتي من المشافي المحلية دون أي تعقيم.
التلوث البيئي والتنمية
مما لا شك فيه أن التلوث البيئي يقوض كل الإجراءات التي يتم العمل عليها في سبيل دعم التنمية في المنطقة، فهو يرهق القطاع الطبي ويضاعف عدد المرضى المحتاجين للعلاج، لأن أغلب الأمراض التي يعاني منها السكان في المنطقة مرتبطة بشكل رئيسي بالتلوث فأمراض الجهاز التنفسي مرتبطة بشكل رئيسي بنوعية الهواء الموجودة في المنطقة، وأغلب حالات الالتهاب الرئوي ناتجة عن استنشاق هواء ملوث، وأيضاً التلوث البيئي يمكن أن يزيد من خطر تفاقم حالات الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة في الجهاز التنفسي، مثل الربو. وتشير بعض البيانات إلى أن تلوث الهواء يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة.
وترتبط أيضا أغلب أمراض الجهاز الهضمي بالتلوث الحاصل في المنتجات الزراعية، والتي تتعرض بدورها للتلوث بسبب سقايتها بماء ملوث وزراعتها بتربة مشبعة بالجسيمات الصلبة الناتجة عن حرق الديزل أو النفايات العضوية والصناعية.
ويؤثر التلوث البيئي على الأمن الغذائي للمنطقة، فتلوث التربة بمخلفات الكربون وتصحر التربة بسبب قطع الأشجار وإزالة الغطاء النباتي وتلوث مياه الري وارتفاع درجات الحرارة والظواهر المناخية المتطرفة، كل هذا يؤثر على الإنتاجية الزراعية وأسعار المواد الغذائية، مما يؤثر أيضاً على دورة الاقتصاد في المنطقة، ويرفع معدلات الفقر، ويهدد بكارثة إنسانية كبيرة تضاف إلى الكوارث التي تعصف بالمنطقة.
فرص التنمية المستدامة والحفاظ على الطبيعة
في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها مناطق شمال غرب سوريا الواقعة تحت حكم المعارضة بشقيها حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة، وفي ظل استمرار الحرب في سوريا واحتمالية بقاء الوضع على ما هو علية في المنطقة من كثافة سكانية وشح في الموارد الطبيعية، تحتاج المنطقة إلى تنفيذ سلسلة من الإجراءات الإسعافية والوقائية للحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة:
- تطوير البنية التحتية
يجب العمل على تحسين البنية التحتية لشبكات الصرف الصحي، ووقف عمليات البناء العشوائي والزحف العمراني باتجاه الأرضي الزراعية، والقيام بصيانه دورية للسدود التخزينية مثل سد ميدانكي خصوصاً بعد تضرره بزلزال 6 شباط 2023.
فيما يخص موضوع التخلص من النفايات المنزلية يجب تطوير آليات فرز القمامة والتخلص من الفضلات المتبقية بطريقة عملية صحيحة.
- حملات التوعية البيئية
تقع على عاتق الحكومات المسيطرة، مسؤولية تثقيف المجتمع بما يخص التعامل مع الموارد الطبيعية وبالأخص موضوع هدر المياه، كما يجب عليها تضمين المناهج التعليمة مادة يتعلم منها الطلاب أسس التعامل مع البيئة، والسبيل لتحقيق التنمية المستدامة.
- قوانين وتشريعات
كما ذكرنا أعلاه، فإنه لم يتم إصدار أي قوانين أو تشريعات في مناطق شمال غرب سوريا فيما يخص الموضوع البيئي، والحد من التلوث، فيجب على هذه الحكومات أن تعمل على سن التشريعات والقوانين النافذة، والتي يتم بموجبها إدارة الأمور البيئية، وتخفيف التلوث الحاصل والحفاظ على الموارد الطبيعية من الاندثار.
خاتمة:
تتحمل مناطق شمال غرب سوريا الكثير من إفرازات الحرب السورية، وهي مهيئة لتكون مسرحاً دائماً للتجاذبات الإقليمية والدولية، كونها منطقة جديدة بتكوين بشري جديد هو الأحدث في الشرق الأوسط، ربما تعمم تجربه شمال غرب سوريا لإعادة تنظيم الشرق الأوسط بمجملة.
من هذا الاستطراد المستقبلي للمنطقة، يجب على حكومات الأمر الواقع القائمة فيها أن تعي أهمية الحفاظ على البيئة وآثارها على السكان وعلى التنمية المستدامة فيها.
كما يجب أن يكون الاهتمام بالبيئة ومشاكلها من أهم اهداف هذه الحكومة، وأن يكون الحفاظ على البيئة معيار مُرجح لإصدار القوانيين والتشريعات الناظمة للحياة العامة في المجتمع.
المراجع:
(1): تأثير الحرب في البيئة السورية، آرام الحكيم، مركز حرمون، ٢٩ نيسان ٢٠١٩، الربع الأول من الدراسة، فقرة البيئة في التشريعات السورية
(3): غياب الأضرار البيئية في الحرب السورية عن السياسة البيئية الخارجية للاتحاد الأوروبي، فراس حاج يحيى، مركز حرمون، ٤ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢١.
(4) شمال غرب سوريا في زمن الكوليرا- مروى مارديني -مركز مالكوم كير للشرق الأوسط 29-آب-2023.
(5) منسقو استجابة سوريا: تعداد النظام للسكان في سوريا باطل وغير قانوني-تلفزيون سوريا-4-آب-2022