الأطراف السياسية الفاعلة: متى تختار الديمقراطية؟
إن الديمقراطية لا يتم تقديمها على طبق من ذهب أو فضة، إنما هي ما يتمخض عنه نضال أفراد وجماعات، أو “الأطراف الاجتماعية الفاعلة “social actors، تكافح من أجلها. يقال إن الديمقراطية تُدخل شيئًا من اللا يقين إلى العملية السياسية، إذ ليس بمستطاع أي جماعة بعينها أن تضمن نجاحها في معركتها مع الجماعات الأخرى.
تمامًا، الديمقراطية ليست هدية في صندوق، بل هي نتيجة نضال مستمر من قبل الأفراد والجماعات الفاعلة في المجتمع. في الحالة السورية، يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في هذا النضال، فكثير من منظمات المجتمع المدني تسعى لخلق فضاء سياسي أكثر انفتاحًا وشفافية.
المصالح كروافع للتغيير
إدخال عنصر اللا يقين إلى العملية السياسية، يعني أن كل مجموعة سواء كانت اقتصادية محلية، أو أجنبية، أو قوات مسلحة، أو بيروقراطية، أم أي عناصر أخرى ذات امتيازات، يجب أن تستعد لمواجهة احتمال خسارتها في الصراع مع الجماعات الأخرى، ما يعني أن مصالحها لن تلقى رعاية خاصة، بل على العكس من ذلك، قد تختار الأطراف الفاعلة في الديمقراطيات إصلاحات تتعلق بالسياسة reforms policy، وربما أول ما تستهدف سلطة الجماعات المهيمنة وامتيازاتها.
وليس صعبًا أن نتفهم سبب كفاح السوريين ونضالهم من أجل حكم ديمقراطي يحفظ كرامتهم ويفتح أمامهم سبل الوصول إلى الحرية. لكن، وكما في العديد من حالات التحول الديمقراطي، ما الذي قد يدفع أعضاء تكتل قوي تابعين لحكم تسلطي إلى تفضيل الحل الديمقراطي الذي من الممكن أن يهدد مصالحهم؟
في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أدركت بعض الشخصيات البارزة داخل النظام العنصري في جنوب أفريقيا (Apartheid) أن الاستمرار في النظام التسلطي سيؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية والضغوط الاقتصادية، التي كانت تهدد استقرار البلاد ومصالحهم الاقتصادية والسياسية. كان هناك ضغط دولي متزايد وعقوبات اقتصادية قاسية. هذه الشخصيات، بما في ذلك الرئيس فريدريك ويليام دي كليرك، اختارت التفاوض مع المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) بقيادة نيلسون مانديلا، والمضي قدماً نحو التحول الديمقراطي. على الرغم من المخاطر التي واجهتها النخبة البيضاء الحاكمة، أدركت أن النظام الديمقراطي يمكن أن يضمن مستقبلًا أكثر استقرارًا للبلاد ويعيد اندماجها في المجتمع الدولي. 1
قد تستميت النخب المُستفيدة من النظام التسلطي للحفاظ عليه، وقد لا يُفضي التغيير إلا إلى استبدال نظام قمعي بآخر. ومع ذلك، تبقى الديمقراطية ممكنة،
رغم أنف أصحاب النفوذ، عندما تُمنى الأنظمة التسلطية بهزائم كبرى، سواء عبر حروب داخلية أو خارجية، أو نتيجة انقساماتها الداخلية، أو عندما تحقق القوى الشعبية المؤيدة للديمقراطية انتصارًا.
يُثارُ جدلٌ واسعٌ في الشارع السوريّ حول مستقبل البلاد، فبينما يرى بعضُهم أنّ الحلّ الأمثل يكمن في التفاوض مع النظام الراهن، وذلك كخيار وحيد لوقف النزيف السوري والوصول إلى نوعٍ من الاستقرار، يستنكرُ آخرون هذه الدعوات بشدة، مؤكدين على استحالة التعايش مع نظامٍ مجرم ارتكب جرائمَ فظيعة بحق الشعب السوري، وهم يدعون إلى مواصلة النضال حتى رحيله.
ويتعزز هذا الجدل بمواقف بعض الدول التي بدأت باتخاذ خطوات واضحة باتجاه إعادة التطبيع مع النظام السوري، متجاهلةً مطالب السوريين ومخاوفهم من أن يُفضي ذلك إلى تكرار مآسي الماضي وإفلات المجرمين من العقاب.
ولعلّ ما يزيد من تعقيد المشهد هو أنّ التجارب التاريخية -وهذا مؤسف للبعض- تُشير إلى أنّ الانتقالات إلى الديمقراطية نادرًا ما تنجح بدون مشاركة من النخب التي كانت تُمسك بزمام الأمور في النظام السابق، فعلي الأغلب، تعتمد هذه الانتقالات على التفاوض وإيجاد تسويات بين القوى المُهيمنة السابقة وتلك الطامحة إلى التغيير.
وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة في السياق السوري: ما الذي يمكن أن يدفع النظام الذي يُتَّهم بارتكاب فظائع، أو جماعات مرتبطة به، إلى القبول بالتفاوض والتنازل عن جزءٍ من سلطته؟
في كتابيهما “الانتقال من الحكم الاستبدادي: استنتاجات مبدئية حول الديمقراطيات غير المؤكدة”، يرى كلٌ من “جييرمو أودونيل” و “فيليب سي. شميتر” أن ثمة أسباب متعددة. فقد يحدث انشقاق بين المتشددين والمعتدلين في ائتلاف القوى الموالية للحكم التسلطي، وهو انشقاق قد ينشد فيه المعتدلون أشكالًا أكثر ديمقراطية من الحكم؛ ربما لتكون لهم الغلبة في صراعهم مع المتشددين في مواجهة ضغوط داخلية وخارجية، أو بسبب التزامات معيارية (Normative Commitments) بالديمقراطية، كاحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
يحيلنا هذا إلى حالة الانشقاق -في بدايات الثورة- بين المتشددين الذين أصروا على مواجهة الاحتجاجات الشعبية بكل قوة وعنف ومنهم بشار الأسد والمعتدلين الذين رفضوا استخدام العنف، والذي يمكن أن يُعزى إلى رغبة بعض الأطراف في الانتقال نحو حكم أكثر انفتاحًا وديمقراطية، وذلك قد يكون نتيجة للرغبة في تحقيق الاستقرار والتخفيف من العزلة الدولية، المعتدلون قد يسعون لإصلاحات تُمكنهم من الحصول على دعم شعبي أوسع وتعزيز موقفهم في مواجهة المتشددين الذين يفضلون الحفاظ على الوضع القائم.
النخب المترقبة
وقد تحظى الديمقراطية بدعم النخب على أساس المصلحة الذاتية؛ لذلك، تكون الديمقراطية هشة ومشروطة في آن. وتحاول النخب من خلال المفاوضات المصاحبة للانتقالات إلى الديمقراطية ترتيب الأوضاع على هواها، بحيث تضمن ألا تشكل المؤسسات الديمقراطية الناشئة تهديداً لمصالحها الأساسية. ويمكن إنجاز ذلك بطرائق عدة. مثلًا، في الانتخابات البرازيلية عام 1982، وظفت الحكومة التسلطية كل الوسائل القانونية الممكنة لضمان امتيازات مُسلم بها للحزب الموالي للحكومة، لكي تضمن لنفسها الأغلبية النهائية في الهيئة الانتخابية الرئاسية أو المجمع الانتخابي.
وهنا حدث أن سمح الحكام التسلطيون، بتأليف أحزاب إضافية بغرض إحداث انشقاق في المعارضة؛ ثم ابتكار معوقات صعّبت على الأحزاب التي كانت شعبية قبل تسلم الحكام التسلطيين السلطة عام1964، التسجيل؛ وجعلوا إدلاء الأميين بأصواتهم أمرًا أكثر صعوبة؛ إذ كان من المتوقع أن يصوت هؤلاء ضد الحكومة. 2
واحدة من الأمثلة البارزة كانت دور النظام السوري والنخب المرتبطة به في عمليات التفاوض والمفاوضات التي تمت تحت رعاية الأمم المتحدة، مثل محادثات جنيف وأستانا.
على سبيل المثال، سعت النخب السورية لدى النظام، بقيادة بشار الأسد، إلى التأكد من أن أي عملية انتقال سياسي لا تؤدي إلى تهديد حقيقي لسيطرتهم على السلطة. في هذا السياق، يمكن ملاحظة عدة تكتيكات مثل التأثير على تشكيل وفود المعارضة في المحادثات، وإعاقة تشكيل هيئة حكم انتقالية تكون فعالة وتتمتع بالسلطة الحقيقية.
كانت هناك جهود مستمرة من قبل النظام السوري لضمان أن يظل لديه نفوذ قوي في أي هيكل حكومي جديد يتم تشكيله خلال المفاوضات، وذلك عبر التأكيد على عدم وجود انتقال كامل للسلطة، وإبقاء الجيش والأجهزة الأمنية تحت سيطرة النظام القائم.
هذا يوضح كيف أن نخبة النظام السياسية، مثلها مثل النخب في الحالة البرازيلية المذكورة، حاولت/ تحاول تأمين مصالحها الذاتية وضمان بقاء سيطرتها على مفاصل السلطة عبر عملية انتقالية مشروطة ومهندسة لصالحها.
ببساطة، لا يمكن للتحول الديمقراطي أن ينجح إلا إذا توفرت ضمانات، من خلال مؤسسات قوية، بأن القوى السياسية المؤثرة لن تخسر كثيراً من مصالحها نتيجة للمنافسة الديمقراطية، وذلك نظراً لنفوذها وقدراتها، بمعنى آخر، لن تدعم النخب الحاكمة التحول الديمقراطي إلا إذا اطمأنت إلى أن مصالحها ستُحترم وتُؤخذ بعين الاعتبار.
مثلاً، في 2004 اتخذ الرئيس الروسي بوتين خطوات إضافية لتعزيز السلطة التنفيذية، وذلك من خلال زيادة الضغط على الأحزاب السياسية المعارضة والمجتمع المدني، معززًا بذلك سيطرة الدولة على وسائل البث الوطنية، وسالكًا طريق محاكمة قادة قطاع الأعمال والأكاديميين المستقلين محاكمات ذات دوافع سياسية. أي أن “بوتين” يحاول على نحو متزايد، السيطرة على وسائل الإعلام، ويحول دون ظهور أحزاب سياسية معارضة ومجتمع مدني قوي.
في سياق الأزمة السورية، تتأرجح مسألة التحول الديمقراطي بين رغبة النخب الحاكمة في الحفاظ على مصالحها القائمة، ومطالب الشعب السوري الثائر في وجه النظام بالتغيير الجذري. فالنخب السياسية، سواء كانت في المعارضة أو في النظام، في سوريا قد تُصر على أن تتبنى الحكومات الديمقراطية الجديدة (في حال تم تشكيلها) سياسات اقتصادية واجتماعية محافظة، تتناسب مع مصالحهم المتداخلة مع النظام السابق، وتضمن عدم المساس بها.
أخيرًا، التجربة التاريخية في التحول الديمقراطي تقول: يُمكن أن تشكل المفاوضات بين الطرفين فرصة للوصول إلى حلول توافقية، تُحافظ على استقرار الدولة وتحقيق التغيير المنشود. يُمكن القول إن الديمقراطية الجديدة، حتى لو نشأت من خلال مفاوضات مع النخب الحاكمة، ولكن يجب التأكيد على أن هذه ليست قاعدة ثابتة أو نتيجة حتمية، فالسياق السوري مختلف تمامًا عن أي سياق آخر، وأتمنى أن تكون سوريا القادمة بدون الأسد وميليشياته.
المراجع:
- بيكي ليتل، الخطوات الرئيسة التي أدت إلى إنهاء الفصل العنصري، 2023، https://2u.pw/xeGYpODj
- آدم برزورسكي، “الديمقراطية كنتيجة محتملة للصراعات”، 1988، ص، 69