إشكالية الهوية والمواطنة في سورية

عبد الله تركماني - 2 مارس 2023

الهوية عملية دينامية متغيّرة بفعل ضغط التحوّلات والمستجدات الحضارية والمجتمعية، ولعلَّ جدل الهويات يكشف أنّ اختيار الصراع بدل التعايش، سيكون ضارًّا وخطيرًا على مجمل الهويات الوطنية والفرعية.

عبد الله تركماني – 2 مارس 2023

 

تعيش مجتمعاتنا العربية أزمة هوية، تتجلى بعدم قدرتها على التوازن بين الأصالة والمعاصرة. إذ يتم تبنّي الدين كمضمون ثقافي شكلاني لا يتجاوز الشعار، بالتوازي مع الإصرار على استعادة ظروف انطلاقه، ووضع الحاضر في قفص الاتهام، دون اعتبار لحجم المتغيّر الزمني. وأدى انفجار الوضع على هذا النحو إلى انفصام عميق في الذات، مما استقطب أشياعًا رفعوا سيوفًا حاقدة، فيما كان التكبير والتهليل مجرد طقوس لإضفاء الشرعية على هذه السيوف.

وفي محاولة للبحث عن أسباب انغلاق الهوية في الثقافة العربية المعاصرة، يمكن إبراز سببين رئيسيين (13):

أولهما، أنّ هذه الثقافة تقدم مسألة الهوية على الحرية، في حين أنّ الحداثة وتحولاتها المعاصرة قد حسمت أمرها – منذ زمن – في تقديم قضية الحرية على قضية الهوية. إذ إنّ الثقافة الشعبية، وبعض الاتجاهات الفكرية العربية، ولاسيما القومية والدينية، تكاد تجعل من قضية الهوية قضية القضايا. ومن دلالات هذا الاتجاه تحوّل أغلب ثورات الربيع العربي من ثورات من أجل الحرية، إلى ثورات منشغلة بالهوية. الأمر الذي أربك تلك الثورات، وغذّى هوية تقليدية مغلقة، لا تساعد على نشوء هوية إنسانية قابلة لاستيعاب كل الانتماءات المحلية ومجاراة التحوّلات العالمية، والتفاعل الإيجابي معهما. وثانيهما، أنّ الثقافة العربية المعاصرة مازالت تعاني من هيمنة الجماعة على الفرد، فإذا كانت الثقافة المعاصرة قد انتقلت من إعطاء الأولوية للكيانات الجمعية إلى إعطاء الأولوية للفرد وحقوقه وانتمائه الثقافي، فإنّ الثقافة العربية لم تتمكن من هذا الانتقال بعد.
وهكذا، انتهت الهوية، التي تزعم سموها وطهوريتها المطلقة، كخطاب استعلائي ضد الثقافات والهويات الأخرى، إلى تأجيج مشاعر الكراهية والإقصاء بين الشعوب. وكانت الظاهرة الداعشية، التي تعتقد في تسامي الهوية الإسلامية على باقي هويات بني البشر بدون استثناء. إنّ وهم الهوية المقدسة السامية تبدو معطى جاهزًا لا مجال لمراجعته، مما يؤسس لفكرة ” الحقيقة المطلقة “.
ويمكن لأي متابع لكتابات الحركات الإسلامية أن يلمس هذه ” الحقيقة المطلقة “، التي تتمايز مع الهوية الوطنية، حين تعرّف نفسها بأنها ” هوية ربانية “، عابرة للحدود السياسية، الأمر الذي جعل الخطاب الإسلامي مناقضًا لاحتضان الدولة الوطنية وحمايتها، بل أنّ كل الكيانات التي نشأت باسم الدين كانت حالات استثمار لإضفاء القداسة على النظام القائم.

إنّ كثيرًا من النزاعات والأعمال الوحشية تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها، إذ عبرها تنشأ ” الهويات القاتلة “، مجسَّدة في فن الكراهية، الذي يأخذ شكل إثارة القوى المتطرفة لهوية ربانية مزعومة السيادة والهيمنة، تحجب باقي الهويات. وعلى ضوء هذه التوصيفات يمكن تفسير الظاهرة الداعشية، إذ تكفّر هذه الجماعة كل أمم الكون، وتتوعد كل إنسان لا يحمل الهوية الإسلامية، على مذهب أهل السنّة والجماعة في شكلها السلفي حصرًا، إذ تغالي في طهورية وقدسية الهوية الإسلامية، اجتماعًا وسياسة وأخلاقًا، كما تكيل لنفسها من المزايا والشرف والقدسية، وفي المقابل تسفّه وتدين وتكفّر باقي الأديان والهويات، بل تعتبر أنّ ترويع وترهيب حاملي الهويات الأخرى يدخل في باب ما يضمن للمؤمن دخوله الجنّة.
وقد لوحظ، مع بداية ظهور الجماعات الإسلامية المتطرّفة في سورية، التي تدور حولها شبهات كثيرة، وتثير تساؤلات كثيرة ” لم تتخذ جماعة الإخوان المسلمين موقفًا واضحًا رافضًا لها، الأمر الذي أعطى انطباعًا مفاده بأنّ هناك رغبة في الاستفادة من جهود تلك الجماعات، واستثمارها سياسيًا، والاستقواء بها في مواجهة المنافسين المحتملين، هذا إذا تجاوزنا موضوع التنسيق بين الجماعة وبعض القوى الإقليمية في هذا المجال ” (14).
والخطورة في هذه الاتجاهات الطهورية أنها ” توظف أفكار الخصوصية والهوية والذاتية كمصدات، تمنع تسرّب مبادئ حقوق الإنسان للحياة العامة في البلدان الإسلامية “. خاصة وأنّ هذه المبادئ ” تركّز على حرية المعتقد، والحق في تغيير المعتقد أو الدين ” (15).
وهكذا، من المهم إعادة تعريف الهوية عند الإسلاميين، المرادفة للدين، والرافضة للدولة الحديثة. ذلك أنّ كون الفرد مسلمًا ليس هوية يمكن أن تطغى على الهويات الأخرى، إذ من المحتمل أن يكون لمسلم موقف متشدد من الهويات الأخرى، ويمكن أن يكون مسلم آخر متسامحًا دون أن يفقد إسلامه.
إنّ الهوية الدينية لا يمكن أن تكون لها أولوية على العقل، إذ إنّ تجاهل كل شيء إلا الدين معناه طمس حقيقة الاهتمامات التي تحرّك الناس لتأكيد هوياتهم، التي تتجاوز الدين بكثير. حيث لا استقرار ولا صيانة للمكتسبات بدون مواطنة فاعلة، كما لا مواطنة حقيقية بدون قدر كافٍ من الوعي بالهوية الوطنية داخل كل فرد، إذ إنّ الشعور بالانتماء الوطني هو المولّد الطبيعي لقيم الولاء للكيان السياسي للدولة الوطنية الحديثة.

الهوية والمواطنة في الحالة السورية

إنّ تشكّل الوطن السوري، خلال التاريخ المعاصر، عرف صراعًا كبيرًا على تحديد هويته. حيث أخذ هذا الصراع، في بعده السياسي، تعريف الهوية إلى خارج النطاق الجغرافي والقّيَّمي المشترك للسوريين، بسبب حاجة القوميين والإسلاميين والشيوعيين إلى شرعية الخارج. وهذا يساعد على فهم أسباب ضعف الهوية الوطنية السورية، وعودة الهويات الفرعية لتكون الرابط الأساسي، في فكر وممارسة نسبة كبيرة من الشعب السوري، وقد ظهر ذلك جليًا بعد ثماني سنوات ونيّف على الثورة السورية.
لقد طرحت سنوات الثورة السورية قضية الهوية الوطنية بقوة، وكشفت عن أزمة عميقة في تعريفها، وبات واضحًا عدم التطابق بين الانتماء الوطني والولاء، فيما حضر الولاء المذهبي والطائفي بقوة، على حساب انحسار الولاء الوطني، بل مورست الوصاية على الهوية الوطنية. ولا شك بأنّ هذه الأزمة ناتجة – أساسًا – عن الاستبداد الذي مارسه النظام السوري على المواطنين السوريين كافة، حيث عمد إلى مصادرة حقوقهم، بما فيها حق التعبير عن الهوية الخاصة بهم، مما يعيق عملية الاستقرار السياسي في المستقبل.
ولا شك أنّ أزمة الهوية السورية ناتجة عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة، إضافة إلى الانهيار الشامل في أنساق المجتمع السوري، حيث الانقسام الهوياتي يتفاقم بشكل عميق، وهشاشة مفهوم الوحدة الوطنية التي مازالت ” تعَدُّ من المصطلحات التي تجمع بين السوريين على الصعيد النظري، إلا أنها على الصعيد العملي مجرد تعبير رغبوي، يُستخدم في إطار المجاملات الخالية من أي مضمون، وتكون عادة وسيلة للتغطية على ظاهرة التهرّب من الاستحقاقات، أو التركيز على الولاءات ما قبل الوطنية ” (16).
ومن المؤكد أنه يصعب بناء الوطنية السورية إلا من خلال تجاوز الأسباب، التي غيّبتها أو شوّهتها، وهي الأيديولوجيا القومية، فوق الوطنية، التي مثّلها حزب البعث، ومن ثمَّ تجسدت في الواقع كوطنية مزيفة تمثل مصالح الطغمة المستبدة. وينسحب هذا التجاوز على الأيديولوجيا الإسلامية وغيرها من الأيديولوجيات ما فوق وطنية.
ولا شك أنّ حالتنا، الموصوفة أعلاه، رسّخها نظام الاستبداد، من خلال صهر جميع أفراد المجتمع السوري في بوتقة واحدة، وإعادة تشكيلها على أساس الولاء المطلق للوطن المختزَل برمز سلطة الاستبداد ” سورية الأسد أو لا أحد “. وكذلك التركيز على الدعاية العقائدية، بل التلقين العقائدي منذ الصغر، وخلق عالم وهمي مهيمن وبرّاق ومنسجم مع أيديولوجية سلطة الاستبداد.
لقد كان عام 1970 ” الحركة التصحيحية “، بقيادة حافظ الأسد، مفصلي في ” تكوين سورية وهويتها “، حيث ” شُيِّد نظام أمني وعسكري، وشُكِّلت له أدوات أيديولوجية “، وأُعيد تشكيل بنية المجتمع، دينيًا وطائفيًا وعائليًا، لتتشكل بذلك ” بنية اجتماعية تقليدية قديمة “، مقابل الفئات المجتمعية الحديثة التي ” تتكون ممارساتها من علاقات حديثة قائمة على قيم أقرب إلى المواطنة والفردية والمساواة، تمارس حرياتها وفقًا لنظام الحقوق والواجبات “. وظهر ذلك جليًّا بعد أزمة الثمانينيات، حيث ” أُعيد تشكيل الهوية القديمة: سياسيًا دفعت السلطة الأمنية برجال دين تابعين لها، أو قابلين للصمت حيالها. وأعطت رجال الدين والمؤسسات الدينية ودور العبادة دورًا كبيرًا في التديين والتطييف الواسع (17).
لقد كان لسياسات نظام آل الأسد، التي بنيت بعناية للحفاظ على استمرارية النظام، دور مهم في تعزيز بذور الخلافات داخل المجتمع السوري. إذ إنّ الدفع بأبناء مكوّن واحد للسيطرة على مفاصل الدولة الفاعلة، ومحاولة إرضاء باقي المكوّنات بمكاسب شكلية، واللعب على الاختلافات الطائفية بين مكوّنات الشعب السوري، مهّد لضعف الولاء للهوية الوطنية السورية الجامعة، وبروز الهويات الفرعية. وبالنتيجة عادت الانتماءات الفرعية لتكون الرابط الأساسي، في فكر وممارسة نسبة كبيرة من الشعب السوري.

في حالتنا السورية، فإنّ مجرى سنوات الثورة أكدت على وجود خلل كبير في واقع ووعي الهوية لدى القوى والتكتلات والأحزاب السياسية، حيث ظهرت إشكالية الهوية الثابتة، التاريخية والدينية والمذهبية، وحتى المناطقية، وتمظهرت في مشاريع وتلفيقات القوى السياسية، من خلال شكلين متناقضين (18): أولهما، يعبّر عن تمسك بالهوية الثابتة (عربية، إسلامية، كردية..)، من دون النظر إلى العطالة التاريخية التي أصابت هذه البنى. وثانيهما، ذهب البعض إلى تبنّي منظومات قيميّة حداثية، للقفز أيضًا فوق مسألة الهوية الوطنية.
ومع تجاذبات أطراف الحالة السورية، محلية وإقليمية ودولية، والحالة المستعصية للكارثة السورية، ومع التشتت في الجغرافيا الكونية والمحلية للشعب السوري، فأي فضاء للهوية السورية الجامعة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات؟ بعد أن كانت مفردة المواطنة الحقة خارج قاموس النظام طوال خمسة عقود، وبعد أن عجزت المعارضة في تأصيل وبلورة مفهوم الهوية والمواطنة السورية الجامعة، لأسباب تتعلق بأيديولوجياتها المأزومة جميعها، قومية وإسلامية وماركسية، باعتبارها وجوه للأيديولوجيات الشمولية، التي تنمّط الإنسان حسب مقاسها، ولا تتعاطى معه كقيمة إنسانية فضاؤها الحرية المبدعة والذات الواعية الناقدة.
وكانت النتيجة بروز الهويات الفرعية وخفوت الهوية الوطنية، وبذلك تتفتت سورية في مستوى الهوية، مما يعكس افتقاد النظام والمعارضة إلى مشروع وطني جامع للسوريين بكل مكوّناتهم. وقد غابت القيادة الثورية المدنية، التي تمثل كل فئات الشعب السوري، مما سمح للتنظيمات والجماعات المسلحة في فرض نفسها، وإبعاد الفاعلين الشباب الذين أطلقوا شرارة الثورة السورية، من أجل الحرية والكرامة. كما لا يمكن أن نغفل دور العوامل الخارجية في ” تطييف الهوية السورية “، في حين أنّ الثوار الشباب سعوا لـ ” تشكيل هوية وطنية جامعة، ودولة حق وقانون يكون فيها المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات ” (19).

إذ من المهم تعزيز الانتماء الإيجابي، الإرادي والحر والمعاصر، لكل مكوّنات الشعب السوري، على أنها عوامل تنوّع وغنى. مما يقتضي وضع حدٍّ للانتماء السلبي الإكراهي، في ظل التوصيفات العددية (الأكثرية والأقلية)، وكذلك إنهاء وصاية البعض على الآخر تحت أي مسمى (قومي أو ديني). ويكمن الحل في التصالح مع التاريخ، وقبول الواقع الديمغرافي كنتيجة تاريخية عبرت الزمن وأخذت صورتها الحالية، إضافة إلى إقامة نظام ديمقراطي تعددي وشراكة سياسية حقيقية، ووضع حدٍّ للاستعلاء القومي والديني. باعتبار أنّ الحداثة السياسية جاءت بالدولة الوطنية الحديثة بوصفها ” الوحدة الاجتماعية التي توحّد الناس بواسطة روابط مدنية، قائمة على الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للمواطنة ” (20).
إنّ فكرة المواطنة المتساوية ماتزال تتعرض لتجاذبات إسلامية – علمانية، نتيجة ارتباطها بمسألة الهوية، إذ إنّ بعض المواقف الإسلامية لم تكن في وارد الموافقة على مبدأ المواطنة الكاملة لغير المسلمين، بما يتعارض مع الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. ولعل الحوار العلماني – الإسلامي، المنطلق من حاجة مجتمعنا إلى التقدم والوحدة، يساعد على نشر ثقافة المواطنة، ويعمّق الوعي بأهميتها وضرورتها، بما هي مساواة بين المواطنين في الحقوق السياسية والاجتماعية، والمساواة أمام القانون في المجتمع السوري.

إنّ دولة المواطنين السوريين، المتساوين في الحقوق والواجبات، هي الأقدر على احتضان حقيقي لتعدد الهويات، ومعالجة الطائفية، لأنها ” دولة جامعة ترعى الاختلاف وتمنع الخلاف، وهي ناظم لتطبيق القانون، من غير انغلاق أو احتكار “. حيث لا يمكن الحديث عن هوية أغلبية وهوية أقلية، لاسيما إذا كان القصد التسيّد والتفوّق والأحقية، لأنّ ذلك سيعني هوية ” خارج إطارها الإنساني “، وهذه ستؤدي إلى ” التصادم مع الآخر، وفرض الهيمنة عليه، يقابلها ردُّ فعل ورفض، وقد يؤدي ذلك أيضًا إلى الانكماش والانكفاء ” (21).

إنّ المواطنة تقوم على قاعدة المواطن/الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته، من خلال الدولة، وهي تغتني وتتعمق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوة رصد للانتهاكات المتعلقة بالحرية والمساواة والحقوق، وكذلك قوة اقتراح بحيث يصبح شريكًا فعالًّا للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لاسيما إذا تحولت الدولة من حامية إلى راعية، تعزز السلم المجتمعي والأمن الإنساني.
وفي حين أنّ المواطنة ركن أساسي في الدولة الحديثة، فإنّ هناك من يدعو لنموذج آخر أساسه أيديولوجي، يقوم على الهوية الدينية أو الطائفية أو القومية. فأغلب الإسلاميين مثلًا يتحدثون عن ” دار الإسلام ودار الشرك “، وهم وفقًا لهذا التقسيم افترضوا مواطنة عابرة للحدود والجنسيات والقوميات، مما يؤدي إلى تجاوز الدولة الوطنية، لاسيما عندما يجري الحديث عن ” مواطنة إسلامية “.
إنّ الفوات التاريخي للوطنية السورية يطرح علينا مهمة المساهمة في إعادة صياغة المفاهيم المرتبطة بهذه الوطنية (الهوية، المواطنة، المكوّنات، الدولة)، أي المساهمة في تجديد الثقافة السياسية لدى السوريين. خاصة أنّ موضوع الهوية سيكون حاضرًا بقوة خلال المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية، وإعادة البناء ومرحلة العدالة الانتقالية.

وفي ضوء ما سبق، لابدَّ من صياغة برنامج عمل فاعل، لاستدراك التدهور الحاصل على صعيد إعادة تشكيل الهوية السورية، مع الأخذ بعين الاعتبار التنوّع القومي والديني والمذهبي، مما يؤدي إلى إدارة هذا التنوّع بما يخدم إغناء الحياة الاجتماعية السورية. وهنا من الضروري رفض أية مشاريع مستقبلية، تقوم على أساس المحاصصة القومية والطائفية لمؤسسات الدولة، بل إنتاج خطاب وطني جامع، يقوم على فكر واعٍ حضاري مدني حامل لمشروع ديمقراطي يوفر الحرية والكرامة للشعب السوري.

إنّ السعي إلى إحياء الهوية الوطنية السورية لا ينطوي على إلغاء الهويات الفرعية، كي تكون قادرة على تلبية حاجات الاجتماع السياسي، أي إعادة بناء الدولة السورية الحديثة، باعتبار أنّ غياب هذه الهوية عامل أساسي في استفحال الكارثة السورية، خاصة تسهيل التفريط السياسي بالوطن السوري.
إنّ الطريق إلى إعادة تأسيس سورية كوطن موحد، وإعادة بناء الدولة الوطنية، لم تعد تقتصر على زوال الاستبداد، بل لا بدَّ من: صياغة العلاقة بين مكوّنات الشعب السوري على أسس جديدة، تنبذ الطائفية والمذهبية والعصبيات المختلفة. وصياغة سورية الجديدة، سورية الوطن والمواطنة والتعدّد والتنوّع، على قاعدة الديمقراطية السياسية والاجتماعية. ومن المؤكد أنّ إعادة بناء الوطنية السورية ليست أمرًا يمكن إنجازه عبر إجراءات فوقية، وهي ملازمة للعملية السياسية، ونتيجة متدرجة لها، ولكنها لا تُبنى على المحاصصات من أي نوع، وإنما على أساس الكفاءة والولاء للدولة الوطنية.

خاتمة
الهوية عملية دينامية متغيّرة بفعل ضغط التحوّلات والمستجدات الحضارية والمجتمعية، ولعلَّ جدل الهويات يكشف أنّ اختيار الصراع بدل التعايش، سيكون ضارًّا وخطيرًا على مجمل الهويات الوطنية والفرعية.
واليوم، بعد مرور ثماني سنوات ونيّف على الثورة السورية، بتنا أكثر قابلية للتفكير جدّيًا في مشروع وطني سوري، يكون بكل ولكل السوريين، على أساس احترام الخصوصيات والحقوق، وفتح المجال أمام جميع الطاقات للمشاركة في إعادة بناء سورية، وحل مشكلاتها، والعمل من أجل تنميتها وتطويرها نحو الأفضل.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *