يدخل أحمد إلى الخيمة مسرعاً وهو ينادي:
بابا بابا مدير المخيم بعت أنه بكرى جاي المعونة
يأخذ ذاك الرجل الخمسيني والذي أتعب النزوح والترحال والفقر كاهله.
تنظر إليه تظن أن عمره ناهز السبعين أو يزيد بقليل؛ ترى رجلاً متعب من كل شيء، ويسكن في داخله ألف غصة وغصة.
يأخذ الهاتف الجوال من ابنه ويفتح “الواتس أب” على مجموعة المخيم، يقرأ الرسالة بصوت عال زوجته وأبنائه الثلاثة في صمت كأنما يقرأ عليهم بيان انقلاب عسكري، والجميع ينصت، أو أن الصمت المطبق عليهم وكأنهم في اجتماع صباحي في قطعة عسكرية قائدها ضابط ظالم.
يقول أبو أحمد بصوت عال:
السلام عليكم يا سكان المخيم بكرى إن شاء الله جاي الإغاثة، الكل يجهز أوراقه الثبوتية “الهوية ودفتر العيلة”، لأن ما حدا رح يستلم بدونهم.
التسليم الساعة عشرة ونصف إن شاء الله، الكل يكون جاهز وأهم شي كونوا منظمين بلكي نصير أصحاب مع المنظمة، ويعجبهم تنظيمنا وعلى طول تجي توزع عنا.
الخيمة بكل تفاصيلها كانت قبل قراءة هذه الرسالة حزينة حد البكاء.
صاحب الدكان أوقف الدين عنهم باستثناء الخبز، وعندما سأله أبو أحمد لماذا فعلت هذا أجابه صاحب الدكان بخجل: يا جاري العزيز أنت تعرف أنني لا أرد شيئاً عنكم، لكن حسابكم تجاوز الخمسين دولار، وكذلك بيت أبو سمير وبيت أبو خالد. وأوقفت الدين عن الجميع باستثناء الخبز تأخذونه بالدين لا بأس، والأهم انظر إلى دكاني تجده شبه فارغ بسبب كثرة الدين، ورأس مالي لا يتجاوز الخمسمئة دولار، ولهذا أوقفت كل أشكال الدين مثلما أخبرتك آنفاً باستثناء الخبز.
الخيمة بكل تفاصيلها كانت قبل قراءة هذه الرسالة حزينة حد البكاء…
منذ أسبوع إلى الآن طعام سكانها زيتون وخبز فقط.
الخيمة بكل تفاصيلها كانت قبل قراءة هذه الرسالة حزينة حد البكاء…
مأمون الطفل ذو الست سنوات الذي يدرس الصف الأول الابتدائي منذ خمسة أيام يذهب إلى المدرسة دون قلم…
الخيمة بكل تفاصيلها كانت قبل قراءة هذه الرسالة حزينة حد البكاء…
أبو أحمد ترك الدخان منذ شهر تقريباً بسبب عدم قدرته على شراء علبة سجائر…
الخيمة بكل تفاصيلها كانت قبل قراءة هذه الرسالة حزينة حد البكاء…
أم أحمد تخفي عن زوجها آلام ضرسها الذي لم يفارقها من أكثر من خمسة عشر يوماً، لطالما استيقظت ليلاً تبكي حتى يبتل ثوبها من شدة الألم.
ينظر أبو أحمد إلى زوجته ويقول لها:
بكرى أرسلي أحمد لعند الجيران يجيب أسياخ الشوي لأن رح جبلكم لحمة ونشويها هون.
يصيح الأطفال بصوت واحد: لحم كباب ويركضون باتجاه ابيهم يقبلونه.
يقول مأمون: بابا بكرى رح تشتريلي قلم ما هيك.
يضحك الأب ويقول له: تكرم عيونك يا روح البابا.
الجميع وضع نفسه في حالة تأهب قصوى ليوم الغد، مضى أكثر من سبعة أشهر لم تأتي أي مساعدات إنسانية إلى المخيم، والبحث عن العمل هناك أشبه ما يكون بقطعة آثار نادرة يبحث عنها الجميع ولا يجدونها.
فقر يحيط بالجميع ويفتك بهم.
وجوه الناس في المخيم يملؤها السعادة وكأنهم يتقاسمون نفس المشاعر.
حان وقت النوم الآن.
في الزاوية الجنوبية ثلاثة أطفال صغار في جعبة كل منهم حلمه الذي ينتظر الغد ليأتي كي يحققه.
في الزاوية الشمالية ابو أحمد وزوجته يتهامسون كي لا يستيقظ الأولاد على صوتهم:
بكرى رح اطلع الصبح أجمع شوية حطب مشان نشغل نار، وبس اجي بشتري لحمة وبتكوني بعتي أحمد يبيع قسم من المعونة مشان جبلكم اللحمة مشان نشويها.
تجيبه أم أحمد قائلةً: إذا زاد معك مصاري بدي صلح الضرس كتير في ألم.
تنزل دمعة من عين أبي أحمد من شدة القهر ويقول: نسأل الله الفرج القريب.
تمسح أم أحمد دمعة زوجها عن خده في الوقت الذي تسيل دمعتها على خدها وتقول: هي الأيام هيك حلوة ومالحة، والحمد لله أنت كنت مفضل على العيلة كلها وقت كانت أحوالك المادية أفضل، والفضل لله أولاً وأخيراً. والرزق مقسوم الحمد لله.
يغط الجميع في نوم عميق.
أحمد يرى في حلمه دفتراً جديداً رسم على غلافه صورة باتمان البطل الخارق…
يفتح الصفحة الأولى ليجد اسمه مكتوب في الصفحة الأولى…
في الحقيقة دفتره قد امتلأ وهو بحاجة إلى دفتر جديد…
مأمون يرى في الحلم مقلمة مملؤةً بأقلام الرصاص الملونة والمزركشة كان يقلب في الحلم الأقلام، وكأنه لا يصدق ما يراه…
نورا الطفلة الصغيرة التي لم تبلغ سنواتها الخمس بعد ترى لعبة باربي تركض حولها وتلاعبها وهي تناديها: لو تعلمين كم اشتقت إليك…
أم أحمد ترى نفسها ترتدي ثوباً جديداً بدلاً من ثوبها الذي قد تم ترقيعه بطريقة احترافية بحيث لا يلاحظ أحد تلك الرقعة حتى يمعن النظر في الثوب…
أبو احمد استيقظ تلك الليلة عدة مرات على أمل أن تكون قد اشرقت الشمس، وفي كل مرة يكرر نفس الكلمة “كاد الفقر أن يكون كفراً” ومن ثم يعود إلى نومه…
اشرقت الشمس أخيراً بعد ليلة طويلة. يخرج أبو أحمد ليجمع الحطب ويقول لزوجته: أرسلي أحمد مع الهوية الشخصية ودفتر العائلة ليستلم الإغاثة، وإذا لم يتم تسليمه حاولي ألا تذهبي حتى يشارفوا على الانتهاء من تسليم كل سكان المخيم كي لا تتأخري في الازدحام أو تضرك الشمس…
أتت السيارة التي تحمل الإغاثة إلى المخيم برفقة العاملين عليها واستلم الجميع حصصهم…
يعود أبو أحمد حاملاً للحطب متفائلاً بحفل الشواء الذي سيعقد اليوم أمام خيمته…
يدخل الخيمة يرى الجميع جالساً وساكتاً.
يسأل زوجته: هل قمتي ببيع قسم من الإغاثة مثلما اتفقنا بالأمس كي نشتري لكم اللحم…
تنزل دمعة أم أحمد وهي تضحك وتشير إلى سلة الإغاثة.
ينظر ابو أحمد إلى السلة ليجد سلة صغيرة فيها سائل للجلي وعلبة معجون أسنان ومعقم لليدين وقطعتان من الصابون.
صوت ضحكته يتردد في أرجاء المخيم ويضحك الجميع داخل الخيمة. ويقول لها جيد إنني جلبت الحطب لربما نحتاج لتسخين بعض الماء في هذا الصيف شديد الحرارة.
ويكمل ضحكته مع أسرته…
تقول أم أحمد: كل ما تم حسبانه سوف أنظفه بسائل الجلي، وسوف تبقى أحلامنا سكينة الليل فقط.
تواسي أطفالها وتقول: سيرزق الله أباكم عملاً عما قريب وسوف يحقق لنا كل أحلامنا بإذن الله.
تضع بضع حبات زيتون ليتناولوا غداءهم وكأن شيئاً لم يكن ولا حلم قد حلم به أحد بالأمس.