بقلوب مضطرمة، وشعر مرسل للريح والشمس، وإيمان راسخ بالحياة خارج القفص، خرجت جحافل النساء في مدينتي يهتفن “حريّة”. كلمة مقتضبة، بوابة من خمسة حروف، لعوالم شاسعة… سماوات وفضاء وأجنحة.

تُرى هل هتفت النساء لإسقاط السجون وحسب؟

وعن أي سجون نتحدث؟

القضبان المعدنية التي يُوارى خلفها المواطنون الذين يهتفون من أجل لقمة العيش، وممارسة الحقوق السياسية بعيداً عن قوانين الطوارئ والإعدامات الميدانية، أم الأسوار التي تحول بيننا وبين المواطنة وسيادة القانون، والدساتير التي تستقي بنودها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تلاه من مواثيق ومعاهدات؟

     من وجهة نظر النساء، كما هي معاناتهن أكبر، وقيودهن أعتى، والأسوار المفروضة حولهن أعلى، فإن معنى الحرية عندهن أيضاً أوسع وأشمل، إنه بلا حدود.

من أجل حق الحياة، وحق التعلم، وحرية الرأي والتعبير، والحريات الاقتصادية والسياسية والمدنية خرجت النساء. خرجن ليمزّقن الشرانق التي تبقيهن في حدود الجسد الضيق، وليخرجن من القوالب القاسية المصبوبة منذ آلاف السنين، ومن الصور النمطية المهترئة، والتبعية التاريخية، والأمان المزيف الذي يمنحه الراعي لخرافه قبل البيع أو الذبح. من الاحتماء بالقطيع، إلى مواجهة المجهول.

حالفني الحظ، أن أكون واحدة منهن.

مخاض

والآن، بعد تسعة أشهر من الانتفاضة، ماذا أنجب لنا حراك السويداء؟ وماذا كان دور المرأة فيه؟ وهل ارتبطت مشاركتها بالحراك بدورها التاريخي في المنطقة؟ وهل استطاعت أن تغير شيئاً في معركتنا ضد السلطة الديكتاتورية؟ وماذا عن معركتها الخاصة ضد الاستبداد الاجتماعي؟

يملئني الفخر إذ أقول، استطاعت نساء السويداء أن يفجّرن في العالم شمساً جديدة. وجّهنَ أنظار العالم كله إلى مدينة صغيرة، مهمّشة ومقصيّة ومنسية في أقصى الجنوب السوري. قلَبنَ موازين القوى، عرّيْن مجموعةً من الأكاذيب الممتدّة عبر سنوات، كشفن الوجه القذر لحجّة حماية الأقليات، حرّكن من جديد الملف السوري بعد فترة ركود طويلة داخل أروقة الأمم المتحدة، غيّرن مخططات الدول العظمى، غيّرن مسار ثورة مدّتها ثلاثة عشر عاماً، كانت تمشي على ساق واحدة، باتت تمشي على ساقين.

الحراك الشعبي والنسوية:

استبشرنا خيراً، نحن نساء السويداء، واعتقدنا أن الحراك لن يكون فقط خطوة مفصلية على طريق قلب سلطة حكم ديكتاتورية، وبناء نظام قائم على الديمقراطية وحكومة التكنوقراط، بل سيُعيد للمرأة دورها الإنساني والعملي والفكري، في المشاركة الفاعلة بالتخطيط لدولة المواطنة الحديثة، وكتابة دستورها، وتوزيع ثرواتها بالعدل، وسيصل بها بدون منّة ولا وصاية ولا تزكية ولا “كوته”، إلى مراكز القوة وصنع القرار، وربما تصبح مرشحة إلى سدة الرئاسة.

ولكن..

اصطدمت النساء بواقع صعب القراءة، هذا الخليط بين الماضي والعصور الطويلة من استعباد النساء، وبين مجريات الأحداث الأخيرة ومستلزماتِها الإسعافية والمفاجئة، جعل المرأة تغير القرارات الدولية، وتشارك الدول العظمى في مخططاتها بتقرير مصير البلاد، وفي الوقت ذاته، لا تغير شيئاً يذكر في هذا الحاجز الكثيف المصمت من الاستعباد، والتمييز القائم على النوع الاجتماعي. وكالعادة، تعرضت النساء لتعنيف ممنهج، ومزدوج. تعنيف من قبل أجهزة السلطة، وتعنيف من قبل المحيط الاجتماعي. شنّت الأجهزة حملاتٍ لتشويه السمعة، والابتزاز العاطفي والجنسي، وترويج الفضائح الأخلاقية والمساس بكرامة النساء، مستندة في نجاحها على الموروث الاجتماعي للمنطقة. وبالتوازي، فقد استقدَمَت المكونات السياسية -التي نشأت في ظل الحراك- النساء ليَنْتَسِبْن إليها، وجرى هذا التنسيب بصورة يمكن تشبيهُها بالسباق، ومع ذلك، فقد مُنعت النساء من الوصول إلى مراكز قيادية في هذه المكونات، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عبر التحييد، أو التلاعب بنتائج التصويت. وهنا، طرحت النساء تساؤلاً: ما فائدة وجودنا في هذه المكونات إذا كان صوريّاً؟ هل يُحضِروننا ليكتمل العدد؟ أو للـ “بروزة”؟ هل النساء صور على الجدار؟ أو تماثيل توضع في “الفاترينا” للزينة؟ هل اندفاعهنّ ووطنيتهنّ وإيمانهن بالحرية.. يتم استثماره وإفراغه من قيمته المعنوية العظيمة؟ وفي سبرٍ بسيط أُجري على النساء المشاركات بالحراك، اكتشف أن معظم النساء كنّ خارجات إلى درجة ما عن السيطرة الذكورية المباشرة، فغالبيتهنّ عزباوات، أو منفصلات، أو فاقدات للزوج.

نحو وعي جديد

هل ستظل مشاركة النساء شكلية برغم قوتها الباهرة؟ هل يكون حراك السويداء خطوة أولى على طريق الألف ميل؟ هل ما يزال الدرب وعراً وشائكاً ومحفوفاً بالألغام أمام النساء؟ هل يعود زمن زنوبيا وجوليا دمنة وثبات إسلامبولي وماري العجمي؟ وهل يمكن أن يتحرر الرجل والوطن بدون أن تتحرّر المرأة وتكون جزءاً من عملية التغيير؟ وهل لدى النساء الإمكانيات الفكرية والسياسية والعقلية التي تؤهلهن إلى إحداث التغيير؟ أرى أننا، نساء ورجالاً، بحاجة إلى مشاريع حقيقية، تتوجه إلى رفع الوعي المجتمعي بمفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، والتمييز القائم على النوع الاجتماعي. وتكثيف الجهود لتمكين المرأة سياسياً، ومهنياً، حتى تمتلك الأدوات اللازمة، والاستنارة المطلوبة، لتخوض المعارك القادمة بوعي جديد، وتتمكن من إعادة خلق كيانها، باعتبارها عنصراً فاعلاً في عمليات التغيير والبناء والتقدم.

شارك المقال:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

ساهم في كتابة المقالات

ساهم مع عشرات الأصدقاء الذين يقومون بنشر مقالاتهم في برنامج واثقون بشكل دوري. اجعل صوتك مسموعًا وابدأ مشاركتك اليوم

قد يعجبك أيضًا

المقالات المشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *