آزادي
- “اقفز في الجبّ يا ولدي”.
همس لي جدّي عندما وصلت قوّات الاقتحام إلى حارتنا. وكيف أحطُّ في بئرٍ لطالما حذّرونا منه؟! رأى جدّي تردُّدِي فنظر إليَّ بحدّةٍ ووكز بعصاه كتفي صارخاً:
- متْ في البئر ولا تمتْ في سجونهم!
رأيت دموعه الغالية، هذه المرّة الثّانية التي أراه فيها يبكي، رأيته سالفاً حين أخبروه بوفاة والدي فقد تحطّم قلبه حَزَناً والآن كذلك، وقفت على حافّة البئر طائعاً له؛ أضع قدماي على الحيطان الرّثّة، يضيقُ نَفَسِي كلَّمَا دنوتُ إلَى الأسفلِ، وبينا أنزلُ انزلقت قدمي وسقطّتُ، الحمد لله أنّ البئر جفَّ بعد عطائه الوافر، ولو كان معيناً لغرقتُ.
فقدتُ الوعي للحظاتٍ إثر سقوطي، وإذ أسمعُ صراخَ العساكرِ يُهينون جدّي ويشتمون والدتي ويسألون عنّي، تبرَّأت عائلتي منّي، ابتسمتُ فلم أعتد سماعَ الكذب من جدّي الذي علّمني الصّدق بأفعاله وأقواله، ولا تزال الأصوات تتعالى وهم يبحثون عنّي، يأكل الخوف أعصابي فأخشى أن يُؤذوا أحدَ أفرادِ عائلتي، كما أنّني أخشى على نفسي إذا خطر لواحدهم النّزول إليَّ.
تناسيتُ أوجاعي إثر السّقوط؛ وكلُّ حركة تدور فوق رأسي تشعرني بالفزع، اقترب (شبيح) من البئر ونظر فيه رأيته من حيث لم يراني، ثمّ أخرج مصباحاً وأنار البئر وصرخ:
- سيدي يوجد شيءٌ في البئر.
سمعتُ أصوات الأقدام المتّجهة إلى البئر، أمر الضّابط عناصره بالنّزول، رأيتني محاصراً ولا أعلم كيف أنجو من قبضتهم؟!
نظرت عن يميني فرأيت سرداباً ضيّقاً فيه طين، ولا أعلم إلى أين يسوقني؟! زحفت خلاله بصعوبةٍ، اتّسعَ السّردابُ واستطعت الوقوف، حاولت الرّكض لكنَّ كاحلي يؤلمني بشدّةٍ؛ فصرت أقفز على قدمٍ واحدةٍ كأنّني ألعب (الحيزة)، وأسقط في كلّ خطوتين منزلقاً ثمّ أنهض، نزل (الشّبيحة) إلى البئر وسمعتُ أحدهم يجهّز سلاحه ليطلق الرّصاص فتشهّدْتُ، وفجأةً يقول واحدهم للآخر:
- لا تقوّص هون، ما منعرف شو في! بلا ما نروح فيها!
وَجفتْ قلوب العساكر من البئر المظلم والسّرداب الضّيق فتركوني، وأكملت مسيري إلى أن رأيت شعاع الشّمس يشكّل دائرةً في قعر الظّلماتِ، اقتربت إليه فتبيّن لي أنّه بئر جيراننا، وهنا أغمي عليَّ ربّما لأنّني شعرت بالأمان قليلاً، أو لأنّ (الأوكسجين) منعدم..
صحوتُ فوجدتني مستلقياً في منزل جارنا (أبو عيسى) وهو يرنو إليّ بعين رأفةٍ قائلاً:
- إنَّ الله يحبّك يا شيركوه، نجوت من الاعتقال في المظاهرة؛ ثمّ سلمتَ من المداهمة.
قال ذلك لي لأنَّني كنتُ في المظاهرةِ الحاشدة، أنادي بأعلى صوتي (آزادي آزادي)، وأنظر إلى الجمع الغفير يُسقِط عرشَ الطّاغوتِ، أطلق المُعارِضون على هذه الجمعة اسم (جمعة آزادي) وتعني في العربيّة: (جمعة الحريَّة)، فقد نهض الكُرد في بقاع سوريّة ليناصروا إخوانهم من بقيّة الطّوائف والأعراق؛ نصرةً لثورة الكرامة.
قدَّر الله لي أن أكون في (حيِّ الأكراد بدمشق) المعروف باسم: (ركن الدّين)، أهتفُ للحريّة في بلدٍ تحكمه البندقيّة لا العقلُ، ويتجبر فيه الجور لا العدلُ.
فهاجمت (الشّبيحةُ) المظاهرة بأعدادٍ ضخمةٍ ومعهم عصيّهم وسكاكين غدرهم، وقارعوا العزّل، يركضون نحونا كما يركض الثّور الهائج، ولا أعرف كيف بقيتُ واقفاً؟! تهاجمنا قوّاتهم كالبحر المضطرب ونثبتُ كالصّخور الصلدةِ.
وبعد عجزهم عن تفريقنا بالعصيِّ، دخلت رصاصاتهم بين أجسادنا، وتحتّم عليّنا التّفرّق، ركضتُ من (ساحة شمدين) هارباً نحو الجبل؛ لأدخل في حارات الأكراد التي بُنِيت بالحبِّ قبل اللبنةِ، وبالكرم قبل الطين، وبإغاثة الملهوف قبل الإسمنتِ، أحياؤنا الهشّةُ أصلبُ من كرسيِّ الظّالم الركيك.
ركض (الشّبيحة) باتّجاهي دون غيري؛ لأنّني كنت هتّاف المظاهرة، وأيقنتُ أنّها نهايتي، أركض من حلاوة الرّوح أو أنّني أطيرُ؛ وقد تحوّلتِ الأحياءُ إلى ميدان سباقٍ بيني وبينهم، أحفظ الحارات كحفظي سورة الفاتحة، يركضون خلفي ويطلقون الرّصاص ليصيبوني، وأعدو كأنّني (تأبّط شرّاً)، أسمع أزيز الرّصاص وأمضي في الأزقّةِ التي آوت أجدادنا من مئات السّنين، متأمّلاً ألا تضيق بي ذرعا، وما رأيتني إلا وقد بلغت منزل جدّي، فاستقبلني وهو بين الخوف والفخر وقال لي:
- قهرَ أجدادُنَا المستبدّين، وقاوم آباؤنا المحتلّين، ولئن تخاذلنا اليوم عن الثّورةِ ستلعنُنَا الأجيالُ القادمة!
أعاد بكلماته روحي، كنت ألهث عطشاً؛ لكنّني ارتويت من كلامه، هي لحظاتٌ قصيرةٌ وإذ نسمع أصوات قوّات الأمن تعجُّ في حارتنا، وحينها طلب منّي النّزول في الجبّ..
وها أنا في منزل (أبي عيسى) بعد أن أنقذني، وجهه لا يبدو كعادته، كأنَّه يخفي عنّي شيئاً، دنا منّي وسقاني شربة ماءٍ ثمَّ أخبرني بأنَّهم اعتقلوا جدّي ووالدتي..
استشطتُ غضباً واشتعل رأسي شيباً، وما إن هممت لأنفجر حتّى صرخ عليَّ:
- اهدأ يا ولدي لا تزال قوّات الأمن بالجوار، وأنت مطلوبٌ، دعني أرتّب هروبك..
لم يتركني (أبو عيسى) أبكي قليلاً أو أثور، وعلى الفور أشار بأن أخرج من الحيّ؛ لأنَّهم إذا أمسكوني لن يرحموني.. وإن هربتُ اليوم فلن أفلت غداً، ثمَّ أشعل (التلفاز) وقال لي:
- انظر إليك تهتف في الجموعِ إنّهم يعرفونك، وهروبك سيكون صعباً.
أدركت للتوِّ أنَّه الفراقُ.. وأنّني قد لا أرى والدتي وجدّي مجدّداً، وبينما أفكّرُ أيَّ البلاد أقصد؟ تراءت لي غوطة الشّآم، ولكن كيف سأعبر من بين الحواجز؟! يعصر الهمُّ عقلي، ويمحق البؤسُ قلبي، وإذ يُخرجُ (أبو عيسى) هويّة أحد أبنائه ويلقيها بين يديَّ قائلاً:
- هذه هويّة ابني جورج قرواني اذهب بها حيث تشاء..
قلت في نفسي “أنّى لدمشق أن تجمع كلَّ هذه الطّوائف فيها؟!” أمسك (أبو عيسى) بماكينة حلاقة وحلق شعري، وغيّرَ شكلي كي لا يُعْرَفَ وجهي، ثمَّ خرجتُ معه من البيت وركبنا السيّارة، وما إن صرنا على أطراف الحيّ أوقفنا الحاجز، ونظر في وجوهنا، أشعر أنَّ شفتي البنفسجيّة ووجهي الأصفر سيكشفان أمري..
لكنَّ انشغال الحاجز في البحث عن شيركوه أعماه عن جورج قرواني، ولو أنّ العسكريّ دقّق النّظر لأحاط بي!
حينما قطعنا حاجز الحيّ الأخير سكنتي السّكينةُ، واطمأنَّ قلبي، نقطع (الأوتوستراد) وعن يميني جوبر، وعن شمالي القابون، وأمامي حرستا، أتلهّف شوقاً للقاء أحرار الغوطة؛ وما إن وصلنا إلى مشارف مخيّم الوافدين قابلنا أشنع حاجزٍ سمعت به دمشق، أرتال السيّارات واقفة والتّفتيش دقيقٌ، أشار عليَّ (أبو عيسى) بأن أعبر مشياً؛ لأنَّ التدقيق على المشاة أقلّ، ودّعتهُ كأنّني أودّع (ركن الدّين)، ودعته وشممت فيه رائحة جدّي، تمنّيت لو يطول بقاؤه معي، وكأنَّه آخر ما أملكه، ذرفت عيونه قبل عيوني، يحاول أن يتهرّب من رؤيتي وكأنَّه يلقي بي إلى الأخدودِ، هو من كان يطمئنني… صرت أطمئنهُ بأنِّني سأنجو بإذن الله…
أنزل من السيّارة كأنّني أنتزع روحي بيديَّ، وأرتجف كطائر مصابٍ، أعرج وأداري مشيتي كي لا ينكشف أمري، اقتربتُ من الحاجز وقد أخفيت عيوني بنظّارةٍ شمسيّةٍ، أوقفني مجرمٌ منهم يلبس البدلة العسكريّة، فطلب منّي هويّتي فدفعتها إليه وحملها مقلوبةً، سألني عن اسمي، ولمّا عرف أنّني مسيحيٌّ انتابه شكٌّ! وحدّق في وجهي ثم خلع عنّي النّظّارة، وحمل الهويّة بشكلٍ صحيحٍ، صار لون وجهي كليمونةٍ، فلم أستطع إخفاء ارتباكي، وفجأةً أمسكني من تلابيبي وصاح:
- لست جورج قرواني!
أمر البقيّة ليعتقلوني اعتقالاً تعسّفيّاً وضعوني في بناءٍ قرب الحاجز، وشنّوا عليَّ حملةَ ضربٍ فلم أعد أدري قدم من تنزل فوق وجهي أو يد من تبطش في جسمي…
في ذلك الموقف العصيب أيقنت أنّ الثّورة هي الدّواء للإطاحة بالاستبداد، وكففت عن الكلام أو التّرجي، صرت أفكّر إن ضربوا والدتي وجدّي هكذا فما نفع حياتي بعدها؟!
وأنا على هذا الحال سمعت صوت (أبي عيسى)، وفجأةً انفضّوا عنّي، وحملني الجار وأدخلني سيّارته مجدّداً وهو يهمس:
- سلامتك سلامتك، الله يشل إيديهم.
لم أكن أعلم أنَّ جنود المستبدّين إذا رأوا المال كان أحبّ إليهم من أنفسهم، شراني (أبو عيسى) بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةً وهتف: لو كنتُ أعلم أنَّ المال سيفكّ المشنوق؛ لما خاطرت فيك من البداية!
ودخل بي إلى الغوطة، ليستقبلني أحرارها، وصلت يوم الخميس ليلاً، ومع صباح اليوم التّالي في: (جمعة حماة الدّيار) وقفت على رأس المظاهرة وهتفتُ غصباً عن المستبدّين:
روحي فداكِ سوريَّة الله حماكِ سوريّة
سوريّة أمّ الأمجاد.. أرض المحشر والميعاد..
ما بيدوم فيها جلّاد..