في سنوات عمري الأولى، في عصر ماقبل الإنترنت، كانت المساحة الوحيدة لي أنا وإخوتي لاستكشاف العالم هي أثناء التمشية القصيرة التي تفصل بين البيت والمكتبة العامة. قضينا هناك ساعات طويلة من طفولتنا ومراهقتنا مستمتعين بالأنشطة الفنية والتعليمية والنقاشات الحرة مع بقية أهل المدينة. كل كتاب في تلك المدينة فضل على ثقافتنا وخبراتنا في الحياة وكل لبنة في حوائط هذا المبنى العريض تحمل ذكرياتنا وسنوات عمرنا المنقضية، لكن تطورات الزمن غيرت كل شئ، وأغلقت المكتبة في ظل هذا التطور ولكن لا يمكن أن أقف وأشاهد هذا يحدث بدون إبراء ذمتي وإعلان موقفي أنا وبقية زملائي في المدينة.
سنتحدث عن ظهور يحمل في طياتها الكثير منها ماهو مفيد ومنها ماهو ضار، فقد ظهرت الأجهزة الذكية في عصرنا الحالي استحوذت على اهتمام شبابنا بشكل خاص وذلك لما يتمتع به من مكانة مهمة في المجتمع وشدة جاذبيته وقدرته على إستهواء الشباب ولفت انتباههم، حيث هذه الجهاز لايكاد بيت يخلو منه في وقتنا الراهن حتى أصبح وسيلة فعالة ينقل الصوت والصورة.
لكن في المقابل نرى له آثار سلبية عديدة سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو تعليمية ومنها تنمية عدة سلوكيات وأهمها السلوك العدواني فظاهرة العدوان ظاهرة قديمة جدا ارتبطت بالإنسان منذ خلقه ويتضح ذلك من خلال قتل قابيل أخاه هابيل قال تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) سورة المائدة.
بناء على ماسبق فتلك الأجهزة الذكية هي سلاح ذو حدين فلم يعد بقدرة الشباب الأستغناء عنه لأنه يلبي حاجاتهم ومتطلباتهم ورغباتهم.
يعتبر الجهاز الذكي وسيلة متقدمة من التقانة والأداء حيث يعد في العصر الحالي من أكثر الوسائل جماهيرية نظراً لما يتمتع به من قدرات الإيصال والتأثير في الكبار والصغار على حد سواء وذلك من خلال المثيرات المتنوعة الجذابة والمشوقة التي تشد نظر المشاهد وعقله. حيث تعتبر الأجهزة الذكية خير وسيلة لمن عرف استخدامها لنقل القيم والمعارف والمعلومات وإيصالها إلى المشاهد بصورة مباشرة وذلك لأنه جهاز له إمكانيات إعلامية وترفيهية وسياسية وتعليمية متنوعة ويتمتع بمصداقية لدى مستخدميه أكثر من الصحف المقروءة، فهي تتميز بالطوعية والمرونة والقدرة على جذب الانتباه مما جعلنا نظن أننا نتعلم منه أكثر ماتعلمنا في المدرسة والمنهاج الدراسي، لكن في المقابل لاتخلو تلك الأجهزة من المظاهر السلبية لمشاهدتها من خلال تأثيرها في عقول الشباب كالعدوان والغضب والانطواء.
وقد أجريت دراسات كثيرة أثبتت فرضية التعلم النمذجة التي تقول إن الشباب أكثر عرضة للعدوانية بسبب إدمانهم واستخدامهم المفرط لهذه الأجهزة.
يمثل العدوان ظاهرة سلوكية مهمة في حياة الشباب، فهو ملاحظ ومعروف في سلوك الإنسان السوي والغير سوي وفي سلوك الشباب فالعدوان مفهوم غامض تتعدد معانيه وتتداخل العوامل التي تمهد له وتتنوع النظريات المفسرة لماهيته.
إن ظاهرة العدوان قديمة قدم الإنسان على هذه الأرض، والدليل على ذلك ماذكر في القرآن الكريم في سؤال الملائكة لله بأنه كيف تستخلف ذرية آدم عليه السلام في الأرض وفيهم من يفسد ويريق الدماء بالقتل العدوان ويتجلى ذلك في قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالاتعلمون) سورة البقرة.
وقد أقيمت العديد من الدراسات التجريبية توضح أهم مظاهر السلوك العدواني منها:
دراسة (الجميل، 1978) في مصر.
كان من أهم نتائجها :هناك فروق فردية ذات دلالة إحصائية بين متوسطات درجات الشباب في السلوك العدواني وفقاً لامتلاكهم الاستخدام الصحيح لتلك الأجهزة.
وأيضا دراسة دراسة(خليفة والهوالي، 2003) في الكويت.
كان من أهم نتائجها : إن مظاهر السلوك العدواني لدى الجنسيين هي: سرعة الغضب، الانعزال، الانطواء وذلك بسبب الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية.
كذلك دراسة (إيرون 1978) الأجهزة الذكية كمصدر إساءة للتعامل مع الشباب.
كان من أهم نتائجها : توجد علاقة وثيقة ذات دلالة إحصائية بين إدمان استخدام الأجهزة الذكية والاتجاهات السلوكية اللاحقة وسلوك المشاهد المكرر لها… أكدت الدراسة أن كثافة التعرض للعنف المرئي من خلال استخدام الأجهزة من أحد الأسباب الرئيسية لظهور السلوك العدواني وبنسبة 63٪ من العينة.
وأخيرا سنتحدث عن أساليب ضبط السلوك العدواني:
– التعزيز التفاضلي: يشمل هذا الإجراء على تعزيز السلوكيات الاجتماعية المرغوبة وتجاهل السلوكيات غير المرغوبة.
– الحرمان المؤقت من استخدام تلك الأجهزة.
– إدخال تعديلات على الحالة النفسية للشباب: ذلك بالعمل على تخفيف الضغوط التي يعاني منها الشباب.
– إجراء التصحيح الزائد: قيام الشباب بسلوكيات بديلة للسلوكيات العدوانية بشكل متكرر.
– توفير طرق لتفريغ العدوان: من خلال بعض الأنشطة كاللعب والتمارين الرياضية.
بالتالي فإنه يجب التأكيد هنا والتنبيه على خطورة اتساع نطاق الاستخدام المفرط والغير سوي للأجهزة الذكية لأنها تمثل غزواً فكريا وحضاريا للشاب العربي وماقد ينتج عنه من إزدواج فكري وعقلي للشباب والأجيال القادمة واتساع الهوة بين ما يشاهدونه على هذه الأجهزة وبين ماتربوا عليه من عادات وتقاليد ونجد أن بعض البرامج التجارية تكون معنية بالربح المادي وسهولة التسويق فتبث أفلام الرعب والعنف والجريمة وعند مشاهدة الشباب لهذه النوعية من البرامج يقوموا بتقمص شخصيات الأفلام والتي تكون في معظمها عدواني وتحويل هذا العدوان إلى حياتهم الواقعية ضد إخوتهم وأقاربهم ومن حولهم وذلك لاعتقادهم بأن مايشاهدونه على شاشات تلك الأجهزة هو حقيقة وصورة مصغرة عن العالم الواقعي الذي يعيشه الشباب.
ختاماً أقول لم تكن مكتبة المدينة مجرد مخزناً للكتب، ولكنها مساحة عامة لالتقاء الأفراد من أجل التعلم والمناقشة والتفكير والاحترام المتبادل.
قرار الاستغناء عن المكتبة بأجهزة ذكية سيحرمنا الكثير الكثير وسنفقد جزءاً من تراثنا القديم. ولن يجد الشباب النهم للمعرفة وكبار السن المثقفون مايعوضهم عن دور المكتبة. يجب أن نجتمع على قلب رجل واحد لإنقاذ ماضينا وعدم استبداله والاستغناء عنه.